Atwasat

حلواني العبد

جمعة بوكليب الأربعاء 31 يناير 2024, 04:06 مساء
جمعة بوكليب

مجرد نطقها أو سماعها أو كتابتها وقراءتها، تحيلك على تاريخ طويل من البهجة أو الألم، وربما الاثنين معاً. ولغويًا، كلمة العبد صفة توضح حال موصوف لا أحد يجهله، وبتاريخ موغل في القدم والألم. إلا أن إضافة كلمة أو صفة حلواني أمامها تضفي، في رأيي، على صفة العبد نوعًا من تميز يخفف من عبء ثقلها على الأذن، ويجعلها ليس فقط مقبولة ومستساغة، بل لافتة للاهتمام إلى حد ما.

قبل زيارتي الأخيرة إلى مدينة القاهرة، خلال الأيام القليلة الماضية، بغرض حضور أيام الدورة الخامسة والخمسين لمعرض الكتاب الدولي، لم أسمع بها من قبل، وإذا صدف عرضًا ونطقها شخص أمامي أو قرأتها مكتوبة قد لا أبديها اهتماماً. لكن حين نطقها أمامي بائع أحذية في أحد شوارع المدينة، أو ما يطلق عليه شعبيًا وسط البلد، ذات مساء قاهري مزدحم وبارد، وبضجيج مروري لم أتعوده، شيء ما، مثل دبوس صغير، نكز قلبي فانكمش قليلاً. والسبب هو أنني حين سألت البائع عن محل لبيع أدوات تنظيف الأحذية، رد قائلاً بإمكاني العثور عليه بعد العبد، ولم يقل إذا تجاوزت محل حلواني العبد. البائع كان مصرياً على سجيته. قصير القامة بشكل ملحوظ، أصلع الرأس، لعب به الزمن كما لعب ويلعب بنا، وامتص نضارة شبابه، وتركه واقفًا أمام باب محل بيع أحذية، في شارع من شوارع وسط البلد، يصطاد زبائن مثلي بهدف بيعهم بضاعته. وبضاعته وإن كانت بدت لي تستحق الاقتناء، إلا أنها، تلك اللحظة، لم تكن مثيرة حقاً لاهتمام رجل جاءه يسعى بحثاً عن أدوات تنظيف وتلميع حذائه، كي لا يكسر تقليدًا قديمًا علمته له المرحومة أمه.

المسافة لم تكن بعيدة، إلا أن ازدحام الرصيف بالبشر، رغم هطول زخات من مطر بارد ومزعج، لم ييسر المهمة. لكن لافتة مضاءة بأضواء نيون، استرعت انتباهي، فاتجهت نحوها. وحين اقتربت منها وجدت أمة محمد قد سبقتني إلى المحل، وتجمعت أمامه، حتى صار من المستحيل عليّ وعلى غيري العبور، إلا بالتعدي على طريق مرور المركبات. الأهم من ذلك أنني عرفت معلومة جديدة وهي أن حلواني العبد محل بالغ الشهرة في صناعة الحلويات والمرطبات، وأنها من النوع الذي يجعل مرارة الحياة وركاكتها تذوب وتنمحي في فم متذوقها، ولذلك السبب تحديداً تستحق عناء التدافع بالمناكب والانتظار، في مساء شتائي بارد وممطر، والتضحية أيضاً بإنفاق مبلغ مالي، قد يرهق صرفه ميزانية صاحبه، عملًا بمبدأ شعبي يقول إن : «الحلو ما يجيش بلاش».

تجاوزت الازدحام البشري بصعوبة، وواصلت طريقي بحثاً عن المحل المقصود، وبالطبع لم أجده، فبلعت خيبتي وواصلت التجول في الشوارع المجاورة، وكلما انتهيت من شارع وانعطفت نحو آخر، يتكرر المشهد نفسه: لافتة بأضواء نيون تضيء الاسم: حلواني العبد. وأمام المحل يتدافع بشر من مختلف الأعمار بالمناكب من أجل تذوق ما صنعه العبد من حلوى ومرطبات. الغريب، أن الزحام البشري الهائل الذي جعل السير على الأرصفة مشقة لا يتحملها كهل مثلي، ضايقني من دون أن يثير اهتمامي، كوني أعلم أنني أخوض في مدينة تكاد تغرق من كثرة ما يقيم بها من خلق الله. وما أثار سؤالي في ذهني هو هل كنت أنا أدور مثل ثور ساقية في نفس المكان، أم أن لحلواني العبد محلًا في شارع في وسط البلد؟ ولا إجابة لي عن ذلك السؤال، وكل ما أتمناه حقيقة، هو أن أحظى بتذوق ولو قطعة صغيرة من حلوياته أو مرطباته، لعلها تفلح في تذويب ومحو على الأقل بعض من مرارة خلفتها في حلقي غربة أعوام طويلة سكنتني، ولم تفلح كل عقاقير بلاد الغرب في تذويبها أو محوها.