Atwasat

الذكاء الآلي والاستشراق الجديد

سالم العوكلي الأربعاء 31 يناير 2024, 03:09 مساء
سالم العوكلي

كملاحظة مبدئية، سبق أن ذكرتُ أن حتى الذكاء البشري يمكن صناعته أو اصطناعه، وما يسمى الآن بالذكاء الاصطناعي تقوم به آلات معدنية مثل أجهزة الحاسوب والخوادم والشبكات بأنواعها والأقمار الصناعية والروبوتات الذكية وغيرها، لذلك ملتُ إلى تسميته الذكاء الآلي، ولأنه سيتكرر كثيرًا في هذه المقالة اعتمدت فيها اختصار (الذكالي).

«الطفلات أحبهن جدًا. لكن الأطفال الذكور أحبهم بحذر هههههههه خصوصًا لما نتخيل أن هتلر وستالين وترامب وصدام والقذافي كانوا أطفالًا يومًا ما».

هذا نص تعليق كتبته على صورة لطفلات وأطفال نُشرت في صفحة تاسيلي للفنون البصرية، ومن خلاله كنت أقر بهاجس لا يخلو من هاجس لاحقني كثيرًا بخصوص الأطفال الذكور الذين لا نعرف إلى ماذا سيؤولون في المستقبل. ألم يكن نيرون وهتلر وموسيليني وستالين، وغيرهم من الطغاة الذين تسببوا في موت الملايين، أطفالًا ذات زمن، يدللهم المحيط ويربتون على شعورهم الناعمة وغير الناعمة، ويستأنسون لبراءة الطفولة فيهم؟ وفي الأساس كان المنشور الذي تخللتْه ضحكة طويلة لا يخلو من روح المزحة مثل الكثير من المزح التي تنتشر في الإدراجات أو التعليقات على منصات التواصل، لكن يبدو أنها كدعابة كونديرا في روايته «المزحة» الذي دفع كاتبها حياته وسعادته ثمنًا لها حين تحولت في أذهان الموسوسين إلى تهمة ستلاحقه طيلة حياته.

وبعد نشري لهذا التعليق حدث أن وصلتني رسالة من «الفيس بوك» معربدة مفادها: أني أنتهك المعايير الأخلاقية وأحتفي بشخصيات خطرة .. إلخ، وستُوقف بعض الخدمات الفيسبوكية في حسابي، مع تهديد بقفل الحساب ..إلخ. ويبدو أن الذكالي هو الرقيب الآلي الذي قبض على كل هذه الجرائم في هذه المزحة القصيرة، بل إنه قرأها بشكل خاطيء تمامًا حتى في سياق الدعابة. ويتحقق هنا كابوس كافكا فيما يخص العقاب الذي يسبق الجريمة، أو دون أن تتاح للمتهم فرصة الدفاع عن نفسه وتبيين سوء الفهم.

بالنسبة للذكالي الذي نتوقع أنه سيسيطر على هذا العالم، تشكل عبارة (أحب الأطفال) التي سيترجمها الذكاء الآلي (I love kids) جريمةً وفق ثقافة وتقاليد المجتمعات الغربية التي تقلق من حالات شذوذ منتشرة تتعلق بالتحرش بالأطفال، ومن جانب آخر مجرد ذكر شخصيات مثل هتلر وستالين وصدام والقذافي في سياق الحديث عن أيلولة الطفولة، فهَمه الذكالي على أنه احتفاءٌ بهم، والتعليق في جوهره هجاء لهم، ولا أعرف بأي لغة يحلل الذكالي النصوص، لكنه وفق اطلاعي المتواضع يستخدم ما يسمى اللغويات الحاسوبية التي تساعد الآلات على فهم اللغة البشرية، مثل لغة «OCI» المستندة إلى خدمة السحابة لإجراء تحليل نصي متطور على نطاق واسع يتعامل مع أكثر من 75 لغة طبيعية، أو باستخدام برمجيات معالجة اللغات الطبيعية «NLP» لتحليل النية أو المشاعر في النص، والاستجابة في الوقت الفعلي للتواصل البشري.

ندرك أن هذه التقنية ما زالت في بدايتها، لكن هذا الخلط الذي أدى إلى قراءة (غبية) للتعليق سيكون ضمن قدر الذكالي مستقبلًا والذي يوصف بأنه أحيانًا يهلوس الحقائق، حيث اختلاف الثقافات والحضارات والتقاليد سيؤدي إلى سوء فهم يتخذ من خلاله الذكالي قراراته وفق مرجعية مصمميه، والخطورة تكمن في أن هذه المرجعية ستسيطر على الكون، مثلما سيطر الخطاب الاستشراقي الذي مهد للحقب الكولينالية في تفسيراته الغربية لثقافات ولغات وقيم المجتمعات المستهدفة، وهذه التفسيرات جعلت في النهاية من الغزو والاحتلال والاستعمار أعمالًا خيرية من أجل شعوب ما زالت لا تعرف كيف تعيش، وتحتاج إلى هذا المد الحضاري الذي ترك خلفه أكداسًا من الجثث وشعوبًا يفتك بها الفقر والجوع. فهل ما نشهد بدايته الآن نوعٌ من الاستشراق الرقمي؟

هذا الرعب الذي ينتجه هذا الفضاء الذكي الجديد هو ما يجعلنا نُقطّع مفرداتنا أو نضيف لها حروفًا ورموزًا ونحن نتحدث عن الحرب في فلسطين، أو نتعاطف مع آلاف الأطفال المقتولين في أصغر بقعة في العالم وأعلاها كثافة سكانية. كنا نتحايل في زمن ما، وما زلنا، على أجهزة الرقابة البشرية (الغبية)؛ التي صنعها الطغاة الأغبياء في منطقتنا، باستخدام المجازات والرموز حتى لا يتم القبض على نصوصنا وعقابنا ولو بتفسير خاطيء لما نكتب، والآن نحن نحاول أن نتحايل على رقابة هذه التقنية (الذكية) بأساليب شبيهة، نحاول أن نراوغ بها وسواس هذا الطغيان الرقمي الجديد الذي يجعل من عبارة (أحب الأطفال) جريمة وشذوذًا وفق مرجعيته، ومن التعاطف مع أطفال غزة الذين يُقتلون يوميًا بالمئات معاداةً للسامية.

وبالعودة إلى مزحة ميلان كونديرا، فإن لودفيك؛ أحد شخصيات الرواية، يبعث لصديقته ماركيتا المتحمسة للعقيدة الشيوعية برسالة يمازحها فيها، نصها يقول: «التفاؤل هو أفيون الجنس البشري. الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي»، لكن هذه المزحة التي بعثها لودفيك المشتاق لصديقته ساخرًا من مهمتها التي أبعدتها عنه لتشارك في ملتقى عقائدي، ستقلب حياته رأسًا على عقب حين تُسلِّم ماركيتا الرسالة لزملائه في الحزب وفي الاتحاد الطلابي باعتبارها رسالة ساخرة من عقيدتهم أو «خارجة عن المعايير» التي كان يسنها الذكاء الأيديولوجي، ويحاول لودفيك أن يدافع عن نفسه بكون هذه الرسالة مجرد مزحة مع صديقته كتبها بعفوية ودون تفكير، لكنهم لم يقتنعوا بتبريره، ويقول له المحقق الثوري: «من المحتمل أنك لم تكن لتكتب هذا لو فكرت أكثر من ذلك. بهذه الطريقة كتبت دون قناع. بهذه الطريقة نعرف على الأقل من أنت. نعرف أن لك وجهين: واحد للحزب وثانٍ للآخرين».

لم تكن الرواية عن لودفيك فقط لكنها كانت رواية عن العصر برمته، حيث في نظام يتفسخ تغدو المزحة جزءًا من واقع متجهم تتحكم فيه سلطة الهزل الذي يتبدى مرارًا أمام أبطال الرواية. وهكذا يقضي لودفيك فترات طويلة تحت عقاب الأشغال الشاقة وتنهار حياته بالكامل بسبب دعابة غازل بها صديقته، لكنها غير قابلة للمغفرة لأن على رأس هذه المنظومة «بطحاء تتحسس عليها». وكم ستكون بطحاء الذكالي الرقمية التي يتحسس عليها شاسعة وممتدة!.

لودفيك تعامل مع بشر كان من الممكن أن يتحايل عليهم أو يستدر عطفهم، أو كان من الممكن أن يَهرب إلى مكان بعيد أو منفىً كي يتخلص من هذا الكابوس، أما الذكالي، مستقبلًا، فسينتشر مثل الهواء في هذا العالم ككيان صلد متجهم ومدجج بمعلومات وعيون تتفحص كل تفصيل، ومعارف لا تضاهَى، كما أنه تقنية غير قابلة للإطفاء، والأنكى من ذلك أنه يستحيل أن تستدر عطفه أو توضح له سوء الفهم، أو تهرب منه إلى أي مكان في هذه الأرض لأنه سيكون مثل الهواء الذي نتنفسه، مُجسِّدا كابوسًا آخر لكافكا: حيث لا يجد المرء فوق الأرض مكانًا ليهرب إليه.

لا شك أن الذكالي سيكون له دور كبير في عديد الأنشطة العلمية والطبية، وفي تطور تقنيات التواصل، فهو حتى الآن أسهمَ بقدر كبير في تطور منصات التواصل الاجتماعي، مثل إتاحة محتوى شخصي ومخصص عن طريق ما يسمى البرامج التوليدية، وتقنيات التعلم الآلي، والتعرف على الصورة والصوت، وتحليل الكميات الهائلة من البيانات المتدفقة باستمرار عن طريق خوارزميات التعلم وما يسمى الشبكات العصبونية، وهي في مجملها تقنيات لها حس رقابي عالٍ، خدمتْ كثيرًا عالم الجريمة عبر أطرافها: المحقق من جهة والمجرم من جهة، فبقدر ما يستفيد منه ملاحقو الجرائم في تتبع خيوط الجريمة، يستعمله الجُناة في حملات تضليل معقدة تخفي أثرهم، وقد يُستخدم يومًا ـ بما يملكه من أرشيف جنائي هائل وقاعدة بيانات لا متناهية وذكاء خرافي ـ في المرافعة عن مجرمين ستُبرئهم هيئة المحلفين المكونة هي أيضًا من روبوتات ذكية.

ولأنه كأي تقنية سلاحٌ ذو حدين، سيكون له دور في كشف الأخبار الزائفة والمعلومات غير الموثوقة، وفي الوقت نفسه دور أكبر في التضليل وفبركة الأخبار والمعلومات والترويج لها بحنكة، وهذا ما اتضح جليًا في حرب روسيا وأوكرانيا، وفي غزو الكيان الصهيوني لغزة، حيث استُخدمت أكبر حملات التضليل الإعلامي بواسطة الذكالي، أو على الأقل استُخدم في تقنيات فن حجب المعلومات، أو لعبة المنع بواسطة العرض.

أما ما يسمى ضمن مصطلحات هذه التقنية «التحليل العاطفي» الأكثر إثارة للجدل، فيتمثل في كون الذكالي قادرًا على فهم المشاعر، حيث سيُمكّنه ما يسمى «النص التشعبي» من فهم الشعور الفعلي للرسالة عبر تحليل الكلمات والسياقات بعد ترجمتها إلى لغته الأصلية، وربما هذا ما حدث مع تعليقي، حيث حُكم عليه أخلاقيًا باستخدام برمجية معينة لتحليل المشاعر والنية وفق مرجعية قيمية لثقافة وتقاليد ولغة مهيمنة.

كما يذهب الباحثون في هذه التقنية إلى أن بإمكانها تحديد ما هو إيجابي وسلبي، ومعرفة الحزن والسعادة والغضب والإثارة.. إلخ وهذا بدوره سيكون متاحًا لخدمة السوق والعلاقة بين الشركات والمستهلكين، ومعرفة ما يفضلون وأفضل الأوقات والأماكن لتسويق السلع، وهي أمور في مجملها تثير الرعب لدى هذا الجيل الذي ما زال في وسعه المقارنة والدفاع عن الإنسانية والطبيعة، ولا نعرف كيف سيكون رأي الأجيال التي ستُولد فيه وبه، ويغدو بيئةً طبيعية لنموهم وتَشكُّلِ وعيهم المختلف عن وعينا بالتأكيد.
فهل سيحدث مع هذا العالم السيبراني المذهل ما حدث مع التلفزيون الذي قال عنه المفكر بيير بورديو، بعد دراسات مضنية، إنه «تحوَّلَ من أداة رائعة للديمقراطية إلى أداة للقمع الرمزي، أداة مبهرة للتلاعب بالعقول؟».