Atwasat

الكون محل المبدعين!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 30 يناير 2024, 06:19 مساء
أحمد الفيتوري

شذرة أولى
كل محلي رث، كل إبداع ينظر تحت قدميه لا يرى غيرهما، فالكون هو محل المبدعين، لكن كل إبداع هو سياق معرفي، المعرفة فيه كما التجربة النبع، وما من امريء ينتج ما لا يعرف، ولا يخصب الخيال إلا التجربة ولو في بدئها وعلى حافة المعيش. لهذا كثيرٌ من المبدَعات يصعب علينا إرجاعها لمكان معين وحتى لزمان، إنها قصائد لها أجنحة تطير، كما عصافير طليقة ما بين الجنوب والشمال، قصص وفنون كما الموسيقى، لا بطاقة شخصية لها، هويتها الفن وحسبها ذلك. لوحات تجريدية، كما خيمة لامرأة سعودية، صورتها مرة مصورة في مجلة أمريكية، في السجن حصلت على المجلة، قصصت الصور البديعة، ثم عرضتها في مجلة من ورق السجائر كنا نصدرها حينها، طلبت الرأي من الزملاء، في تحقيق استقصائي حول الصور، دون أن أبين المصدر، جاء جلَ إجابات المطلعين أنها لوحات تجريدية معاصرة، ومنهم تقليديون إسلاميون استهجنوا اللوحات، متطوعين أنها ليست كما فنون عصر النهضة التشخصية!. هذا الالتباس وهذا الحكم لم يبنَ عن زمن كان الصور/ اللوحات بل توجه للفن باعتباره منتوجًا للبشر وكفى.

• شذرة ثانية
الشعر ذهب الروح وما يصدأ ليس بشعر، الشعر كالحب حتى وإن ذهب فيذهب في عمق النفس، والشعر كالخمر العتق يزيده حلاوة، ثمة قصائد في الحلق أتمطق حلاوتها، وإن كنت لم أتمكن منها، فهي بمثابة امرأة تراودني في أحلامي، وعند الصبح تتبدد في مشاغل يومي، لكن أظن أن امرأة كهذه تغويك لتنزع نفسك مما يشغلك عنها، وستقع في براثنها لا محالة. هذا هو الشعر يحضر غائبًا ويتجلى في الخفاء، فالشعر كالأنثى يرغب في التعري والانكشاف، كما أنه كالأنثى باذخ عند الطزاجة والنضوج، ولم أعرف لشاعر درج مكتب.

قرأت مؤخرًا لمحمد عظيمة الشاعر والمترجم «أن مشكلة الشعر الياباني الحديث في علاقته مع الجمهور الياباني: فالشاعر يشكو من قلة القراء، والقراء يشكون من غموض هذا الشعر، وهذه هي أيضًا مشكلة الثقافة اليابانية بشكل عام، بعد احتكاكها بالثقافة الغربية ومحاولة الأخذ عنها وتقليدها بغاية التجديد».

هل أقول إن المسألة الإشكالية ذاتها في الثقافة العربية، وأزيد أن قصيدة النثر بدأت وكأنها المحمول لصراعات الحداثات والقديم، وكأنما تقارب المنثور بالشعر حرام وأن قصيدة نثرية من الكبائر، فالمسألة دينية ومس بمقدسات الشعرية الموزونة المقفاة لا محالة: يحضرني مثلٌ كنت أشرت إليه، لما وصمَ القريشيون القرآن بالشعر ساعة نزوله، ألم يكن الشعر الموزون المقفى عندهم؟ الأستاذ خليفة التليسي أشار في مبحثه بالخصوص: أن مسألة تجريم قصيدة النثر مسألة محدثة، وتخص مشكل الثقافة العربية الراهنة والحداثة. فالصراع جلي بين المحدثين والتقليديين منذ قرنين أو أكثر، ولكن عندي أن الشعر شعر بغض النظر كان في لبوس الموزون المقفى أم قصيدة النثر حتى في السردية، الشعر شعر كيفما كان، لكن العداء لقصيدة النثر عداء للحداثة وأن نكون، فإذا المسألة مسألة وجود بهذا المعنى.

ليت الرياح تأتي بما يشتهي الشعراء، فالشعر عمل ثقافي صعب المراس وعراكه الوعر، وعليه فهو ليس الولع بالإنشاء فيما جاءت به الأخبار في النشرات اليومية، وليس هو النسج على المنوال، ليس مراهقة المراهقين وهذا اللت والعجن ما يملأ الصحف الورقية والإلكترونية. الشعر الآن خجول وظلي، وفي آخر قائمة مشهيات الميديا التي حتى الساعة تلهو بنا. أظن أن الشعر يكمن في المستقبل ما هو مجهول، الشعر بهذا ملاذ، الساعة لا يستساغ، فالكل أي جمع البشر يظن أن ثمة جبل مأوى، ولهذا أرى الشعر في الفضائيين من يسكنون في التو الكواكب الأخرى، بعد أن ضاقت الأرض بما حملت، القصيدة الآن تبدو أنها تضرب في هذا البعد الاستكشافي، فكأنما من يتعاطى الشعر هم من العلماء، وهذا عود على بدء، في البدء كانت الكلمة: الشعر والسحر صنوان، وكذا في البدء الآن الشعر والعلم صنوان... والعلم لا قومية ولا دين له.