Atwasat

وما زال لم يصل الھذيان إلى منتھاه

رمضان المصراتي الإثنين 29 يناير 2024, 06:39 مساء
رمضان المصراتي

هوس قديم يسكنه ونوبات تنتابه ونوبات هذيان هو الآخر يطوق بلاد السمر الأمة الراكسة في تاريخ الإنسانية يلوح الأفق لها فيبعث حقبًا من الماضي إلى خلدها يجعلك بمجرد التجوال في أزقة وحواري مدنھا الحانية تتوه في الزمن وكأنك تلاحق الزمن، تلكم المدن التي أطلق عليها أسماء متعددة قديمًا إبان قدوم المستعمرين والحروب العالمية التي مرت من هنا ولم تترك سوى هذه التسميات ومخلفات أخرى أرهقت أرواح من عاشوا في هذه المدن الأبدية التي تعشقھا الشمس ويلوذ بھا الدفء.

تجذب الزائرين في علاقة أزلية وأيضًا تجذب كل البسطاء من البشر تتقاسم معهم الماء ورغيف الخبز المعطر بعبق التاريخ تستميل كل من قدم إليها فيقع في غرامها ويتعلق بها وهي رغم معرفتها القديمة بأن كل من قدم إليها سوف يخربش وجهها بمجرد أن تتكون له أظافر وسيراها مثل عاهرة معلقة من شعرها في السماء وسيراها مثل الغولة التي تطارد عهره البشري وسوف ينظر إلى الضفة الأخرى بمجرد أن تقوى أجنحته ويصبح قادرًا على الطيران أو يكون قادرًا على السباحة وسيقول إن العشب أكثر اخضرارًا في الضفة الأخرى ويلعن الكساد فيها بعد كل جلسة تفوح منها رائحة البوخة.

بازدراء سيقول عنها إنها غولة في كل مرة يسبح فيها دماغه في البوخة شاءت أم أبت على غرار أحد شعارات الذئاب المنفردة والمنفلتة والمجتمعة وسيحلف بالطلاق من رأسه بأن يسقط فيها أي شيء ملك أو سلطان أو رئيس أو حتى ساقي خمارة فلابد من السقوط.

كالمرضعة المسكينة هي تعانق الجميع وتستقبلهم بأحضان الدراويش وتشرع أبوابها لذائحين من كل مكان عامرة ببركة كلمات الله فيها التي تسكن ثنايا الزوايا المباركة وعبق رائحة الجاوي ومآذن المساجد العتيقة والكنائس القديمة وحكايا الصوفيين.

تتأرجح مراكب الصيادين على شواطيء مرافيء مدنھا القديمة تحمل كل واحدة منها حكاية موجعة يقوم بروايتها الصيادون الذين تنبعث منهم رائحة السمك وزبد البحر في ليالي الصيف المضيء وكأنهم يمازحون النجوم ويغازلون القمر عبر حكايتهم المثيرة عن ذلك الزنجي الذي طالما صارع وحوش البحر وعن قصة غرام ذلك الأرستقراطي من جارية تقطن زرائب العبيد في مدينة بنغازي الملھمة التي تحترق فينكشف كل ما كان خفيًّا. تجمع بين السيد محمد والعبدة «تعويضة» علاقة حب تُعدّ محرمة في عُرف السادة الذين اعتادوا اتخاذ العبدات خليلات. فيرسل الوالد نجله في تجارة لإبعاده عن حبيبته وتسقي والدته «تعويضة» سائلًا في محاولة لإجهاض جنينها، ليتم إثر ذلك تزويجها بأحد العبيد. عند عودة محمد من رحلة التجارة يعلم أن أهله قد قتلوا ولده الجنين وأرسلوا حبيبته إلى حيث لا يدري فيبدأ رحلة البحث عنها. تلك الدراما التي كتبت على جدران المرافيء القديمة في بنغازي وتناقلها الصيادون وهم يرممون شبكات الصيد وحين يغازلون نجوم ليالي الصيف المبهرة في الكون الفسيح.

تأسر هي قلوب من تسكنها وتصيبهم بهوس من نوع آخر ممزوج بأرواح من عبروا وتشعرهم بغبطة الفرح.

وما زالت قرود هارلو تبحث عن الأمان والسلام في كنف القردة الأم المصطنعة تاركة الأم الأخرى التي تمنحها الغذاء في كل مرة.

ثمة ذئاب تتسلل منفردة ومجتمعة تحت جنح الظلام متخفية في ثياب العارفين والناصحين تدعو إلى سقوط كل شيء وتطالب الفيل بميلاد دستور بدلًا من فيل صغير ولكن الفيل يلد فيلًا في كل مرة بعد مخاض عسير.

تبحث الذئاب عن ضحايا وشيء تسقطه وجريمة مروعة ترتكبها فهي لا يروقها السلام فهي ولدت هكذا تقضي الليل طوله في عواء مقيت وتنام حين ساعة فجر البركة.

جريح من أثر نهش الذئاب خرج نازح مذعورًا يقطر دمه فوق ركام بيته وشح دمه ركام المدينة ومياه شاطيء الشابي تتعثر خطاه مسرعًا هائما على وجهه لا يلوي على شيء. شعر بأنفاس من عبروا تلعن الذئاب المفترسة، ثمة أمل لنجاة وتذهب به خطاه المسرعة إلى ذلك المرفأ القديم القابع على شاطيء البحر يلتقفه من براثن الذئاب المسعورة وينجو به ذلك المكان الذي تعود أن يركن إليه ذات مساء كلما زاره السأم والضيق والكدر والضجر يستفزه غروب الشمس فيمضي إليه وكأنه على موعد مع تلك الأنغام التي تتسلل في ثوبها القديم تروي تراث الزمن الجميل الرائع تعانق تلكم الأنغام الجميلة نسمات بحر الشابي تراقصه في رقصة تشبه الفلامنكو وكأنها في موعد غرامي حميم تتدفق ألحان كلمات علي الشعالية وشادي الجبل وسيد بومدين وعادل عبدالمجيد تشنف تلكم الكلمات والألحان الرائعة الشجية آذان الصيادين فتتردد تلك الكلمات على شفاههم «مهبول يا زارع الفول في شط الملوحة ومهبول يا واخذ القول في حبيبه كيف روحه، نور عيون اليوم قابلني، سوال النبي يا بير ما ورداتك، وطيرين في عش الغلا، وهز الشوق حنايا الخاطر» ثم تصدح أنغام الوردة الليبية لتزين ذلك المشهد بكلمات أغانيها الأصيلة والمعبرة عن التراث الشعبي البنغازي إنها بنغازي الفرح والمحبة.

ثم تتردد كلمات المنشدين للبغدادي من الزوايا الطاهرة الشريفة المباركة العبقة برائحة الجاوي وأصوات الأذان الحانية عبر مآذن المساجد العتيقة وكـأنها هي الأخرى متلهفة لموعد مع أصوات الصيادين وهي تردد «هيل الله هيل الله» تتعانق الشجون مع نسيم البحر فيشعر هو بالسكينة والسلام ويتبدد الأرق والسأم عند الشاطيء مختلطا بزبد البحر ليذهب جفاء.

لكن هذه المرة ليست كالمرات السابقة. ليس الضجر ولا السأم. إنها الذئاب الضالة المفترسة روعت الأبرياء وقلبت حياة الناس وخلفت الدمار والشقاء ونشرت رائحة الدم في كل مكان وسيطر عواؤها المقيت على مدى الصوت تطارد الجميع.

يمضي قدمًا تلاحقه زخات الرصاص وتطارده الذئاب بتلكم التعويذة الشيطانية وأصوات الطائرات يخترق حاجز الصوت والصمت وينتشر الذعر في مدينة الذائحين وتتسارع خطوات الفارين والنازحين المسرعة تلاحقهم ذئاب وأقنعة بدون وجوه.

ثمة سبب ما جعله يركض في اتجاه مشفى غير لاوٍ على شيء وعند دخوله وجد أشخاصًا يحولون إنعاش شخص ما هاجمته الذئاب وأردته صريعًا. تقدم ببطء وكأن شيئًا ما دفعه في اتجاه المصاب وقال له بحماس أتريد أن تنقذه تقدم فعل ذلك برهة ثم يتقدم ويرتدي لباس العمليات ويطلب من زميل آخر المساعدة لتجهيز المريض بغرفة العمليات ويقوم بكل ما في وسعه دون أن يعرف كيف ولماذا ولمن هو فعل ذلك. أنهى العمل وعقم الجروح يلتقط أنفاسه وهو في حالة ما قبل الوعي ينظر إلى المريض الذي يغط في نوم عميق ثم وجد قميص المريض قريبًا منه وبمجرد أن قرب القميص واشتم رائحته أدرك أن المريض هو ابنه وعرف أنه أنقذ ابنه الذي حاولت الذئاب افتراسه لحظات واستعاد وعيه وأدركته نوبة بكاء ووجع.

جلس وحيدًا ينتظر ابنه الغائب في غيبوبة بعد الجراحة عله يعود إليه من جديد ونظر إلى المرفأ القديم الذي يحتضن مراكب الصيادين القديمة تتلاطمها الأمواج وتحتضن أحلامهم وإلى الزوايا والمساجد التي كانت عامرة بذكر الله فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم.

ثمة حقيقة سرها في نفسه تقول نحن تعودنا أن نلوم الضحايا دائمًا حتى وإن اقتحمت ديارهم ليلًا وسرقت أحلامهم وهم نائمون. ببساطة نحن نفعل ذلك لنطرد الشعور بالقلق صوب حقيقة أننا وبدون أي شك سنكون الضحايا القادمين.