Atwasat

«باب الأمل بابك يا كريم»

جمعة بوكليب الأربعاء 24 يناير 2024, 11:18 صباحا
جمعة بوكليب

ما يحدث في العالم من حروب وكوارث ومفاسد وبلاوٍ يجعل المرء منّا، في أكثر الأحايين، يشعر وكأنه يعيش في صخب وضجيج عالم متعب ومرهق، لا يختلف كثيراً عن «مولد وصاحبه غايب»، كما غنّى، ذات يوم، المطرب أحمد عدوية.

وأنا وإن كنتُ قد كرهت في بدايات الشباب غناء أحمد عدوية عندما ظهر في السبعينيات من القرن الماضي تحت تأثير نظرة استعلائية غبية، وهذا اعتراف آمل ألا يكون متأخراً، فإنني بعد سماعي أغنية «الناس الرايقة» أعدت التفكير في الأمر، واكتشفت أن في عقلي ووجداني مكاناً متسعاً ليس لأحمد عدوية فقط، بل لكل الفنانين والمطربين الشعبيين أينما كانوا وحلوا وأطربوا.

في الآونة الأخيرة، اندلعت حربٌ جديدة في أميركا اللاتينية، وتحديداً في تلك البقعة الجغرافية الواقعة بين بلدين مشهورين: بيرو وكولومبيا. البلد يُسمى الإكوادور، وكان من قبل دولة صغيرة، ولا يرد اسمه في نشرات الأخبار، ولا يبتعد كثيراً عن تخوم النسيان.. يعيش في سلام مع نفسه والعالم، ولكن موقعه الجغرافي بين تينك الدولتين حوله إلى وكر للأفاعي، أقصد لعصابات تهريب المخدرات، بعد أن جرى التضييق عليهم في كولوميبا وبيرو تحت ضغوط من أميركا ودول أوروبا، فلجأوا مضطرين إلى الإكوادور.

تلك الحرب في الإكوادور بدأنا نتابع أخبارها في وسائل الإعلام باهتمام واستغراب معاً، لأنها، كما تبين، حربٌ بين حكومتين: حكومة شرعية، اختارها الشعب ديمقراطياً، ومعترف بها دولياً، وأخرى فرضت نفسها على الشعب بقوة التخويف وبث الرعب. الأولى يمثلها ويقودها رئيس منتخب من الشعب، والثانية يمثلها ويقودها «مردف» مجرمون من جنسيات مختلفة، متورطون في القتل والخطف وتهريب المخدرات.. إلخ، وهذا من جهة.

من جهة أخرى، قد يكون ما غنّاه أحمد عدوية في المقطع المذكور أعلاه عن «مولد وصاحبه غايب» يتناسب إلى حد ما مع ما يحدث في العالم اليوم من أمور محزنة، إلا أنّه، في الوقت نفسه، يجب ألا يقف حائلا بيننا وبين رؤية الجانب الآخر من الحياة، وهو مختلف عن الوجه المظلم، ويدل عليه، على سبيل المثال لا الحصر، ما لحنه وغنّاه المرحوم سيد درويش في أغانيه، وفي مقدمتها تأتي أغنية «الحلوة دي قامت تعجن»، خاصة حين يتوسل الشيخ سيد، في أحد المقاطع، إلى المولى القدير مبتهلاً بصوته الشجي والعذب «باب الأمل بابك يا كريم».

وبين الموقفين، أتارجح أنا معلقاً بين سماء لا أطالها وأرض لا أستقر عليها، وأحاول ما استطعت الحفاظ على ما تبقّى في داخلي من توازن نفسي، يتيح لي التواصل ما أمكن مع عالم فقد توازنه، وأرصد الدنيا من حولي، عن قرب، بعيون عقلي، وأتابعها بقلق وخوف، وهي تتقلب وتدور كمرجل يغلي. ومع كل ذلك، لا أتوقف عن مشاهدة ومتابعة خلق الله في كل أرض الله، وبإعجاب، وهم يكدّون في سعيهم نحو حياة أفضل، ويواصلون بدأب النمل حيواتهم، مُكبراً فيهم حبّهم للحياة، والحرص على التمتع بما يتاح لهم من طيباتها.

المشكلة أن الحروب كثرت، وصار من الصعوبة بمكان متابعتها في وقت واحد. الحرب في السودان أنست العالم الحرب في أوكرانيا، وحرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة أنست العالم الحربين في السودان وفي أوكرانيا معاً. وها هي حرب أخرى على مستوى أقل تنشب في بلد صغير كان آمناً، حوّلته العصابات إلى مأوى ووكر ومرفأ.

الإكوادور وجد نفسه يدفع ضريبة موقعه الجغرافي، الواقع بين أكبر بلدين في عالم زراعة وتصنيع وتهريب الكوكايين. والإكوادوريون وجدوا أنفسهم يدفعون ضريبة فساد نخبهم الحاكمة، ووسائل الإعلام تقول موضحة أن الجيش تسلم الأمور هناك بقرار من الرئيس، وتحولت شوارع المدن إلى ميادين معارك. وباختصار، أضحت الإكوادور لا تختلف كثيراً عن «مولد وصاحبه غايب»، إن جاز الوصف.

الحكاية بدأت حين اكتشف رجال الجمارك الإسبان أكبر شحنة من مخدر الكوكايين وصلت إسبانيا، مرسلة على ظهر سفينة محملة بشحنة موز قادمة من ميناء في مدينة ساحلية في الإكوادور. التقارير الإعلامية قدرتها بتسعة أطنان وأزيد. تلك الشحنة الضخمة جعلت الأعين في دوائر مراكز مكافحة تهريب المخدرات في أوروبا وأميركا تسلط على الإكوادور، ومنها بدأت تطفو حقائق مذهلة، أهمها أن قادة العصابات تمكنوا من شراء ذمم النخبة السياسية والشرطة والجمارك، وأن البلد يغرق في الفساد، وأن حاميها أصبح حراميها.

قد يرى البعض أن ما ذكرته عن الحالة في الإكوادور لا يختلف عن أحوال غالبية البلدان في قارات العالم المختلفة، ومن ضمنها بلادنا قبل وبعد فبراير 2017، وأعني بذلك فساد النخب الحاكمة، وتحولهم إلى وحوش لا تكف عن امتصاص دماء شعوبهم.
وبسبب ذلك، ورغماً عن ذلك، سنظل نردد مع صوت المرحوم الشيخ سيد درويش، وهو يبتهل منشداً «باب الأمل بابك يا كريم».