Atwasat

أشباح الحقيقة

سالم العوكلي الثلاثاء 23 يناير 2024, 05:09 مساء
سالم العوكلي

من أكثر المفردات تداولًا بيننا (الحقيقة) سواء في الفصحى أو في اللهجة، في المزاح وفي الجد، في الحياة اليومية وفي الفلسفة، في العلم وفي عالم الغيب. ومع دخول هذه المفردة المقلقة إلى الفكر تحولت إلى اصطلاح، ثم إلى مفهوم معرفي أذاب الكثير من الحبر. و(الحقيقة) وفق السياق المنشود هنا هي الاعتقاد، أو الفكرة المصمتة المنطوية على نفسها والمقاومة لكل تشكيك أو تجاوز.

ثمة من لا يستسيغ العالم ولا الحياة دون حقائق ثابتة، ولأجل هذا جاءت الأساطير التي اقترحتها مخيلة الإنسان للإجابة عن أسئلة وجودية أو طبيعية معقدة، ومن أجل أن تكون هذه الإجابات التي اجترحها الخيال الإنساني حقائق يمكن أن يعالج بها الإنسان قلقه ويستكين لسلامها الروحي والعقلي، فيركن إلى أشباح الحقائق أو ظلالها عبر عادة التحديق في وهمها ليحمي نفسه من مغامرة الالتفات أو طرح الأسئلة المربكة. ثم جاءت الأديان المرتبطة بالوحي لكي تحسم كل الجدل حول الحقيقة بكون من يجيب عن هذه الأسئلة هو الخالق نفسه، وبالتالي على الجدل أن يتوقف وأن يكون التسليم بهذه الإجابات هو العقيدة الصحيحة للمؤمن، وأن يكون للمؤمن ثواب تصديقه لكل ما ورد في الوحي جنة وسعها السماوات والأرض، ويوم موعود سيُحسم فيه كل ما نختلف حوله.

غير أن عقل الإنسان الفضولي لم يتوقف عن معالجة مفهوم الحقيقة نفسه انطلاقًا من أن الخالق زوده بجهاز ذكي في جمجمته ومهمته أن يبحث عنها وفيها، واتخذ العلم نهجًا للبحث وإمكان الوصول إليها مع الزمن ومع التطور الطبيعي لقدرات المخ البشري غير المحدودة. بينما بعض الفلاسفة المتأخرين وصلوا إلى النهاية المفجعة التي تقول إنه لا توجد في الأساس حقيقة، بل ظلال وأشباح نركن إليها، وأن جوهر المعرفة يكمن في البحث عنها وليس في الوصول إليها.

ومنذ بدايات الشغل الفلسفي كانت الحقيقة هي ما تقض مضجع من تصدوا لهذا السبيل من التفكر الموضوعي المعزول عن الموروث الخرافي، وعن العاطفة أو الركون للحقائق التي اكتسبت قوتها من التعود والتكرار والألفة بها. فاعتقد أفلاطون أن الحقيقة موضوعية، وأن العقل البشري الذي امتاز به الإنسان عن كل الكائنات قادرٌ على إدراكها إذا تم تمرينه بالشكل السليم على طرق التفكير الموصلة لهذه الغاية، وأن الكون ينهض على مجموعة من الحقائق لابد من اكتشافها، مشيحًا بعقله عن فكرة الشك في أن الإنسان عاجز عن معرفة هذه الأسرار، أو هكذا جُبِل.

وحكاية كهف أفلاطون الشهيرة تعكس الجدل الدائر على مر القرون بين الدين والفلسفة من ناحية، وبين الدين والعلم من ناحية أخرى، وهو جدل أدى إبان سيطرة الكنيسة إلى صدام دموي كان في الغالب ضحاياه ممن شككوا في الحقائق التي جاء بها الدين والتي معظمها متحدر من الأساطير القديمة لمحاولة تفسير الكثير من الظواهر الطبيعية والوجودية المعقدة. وهو صدام حدث في كل العقائد التي تعتبر طرح أسئلة من هذا القبيل تجديفًا لأنها فوق قدرات البشر، وهو صدام توقعته أمثولة كهف أفلاطون وحقائقه الماثلة أمام قاطنيه كظلال وبين من التفتوا للخلف وخرجوا للشمس وقرروا أن يختبروا هذه الحقائق: «في هذا الكهف المتخيَّل ثمة أناس مقيدون في مواجهة حائط. كان في وسعهم أن يروا أمامهم ظلالًا تتحرك حسبوا أنها أشياء حقيقية. لكنها لم تكن كذلك. لقد كان ما يرونه ظلالًا سببتها أشياء ماثلة أمام نار أُوقدت خلفهم. وقد أمضوا كل حيواتهم يحسبون أن الظلال الساقطة على الحائط هي العالم الواقعي. بعد ذلك يتحرّر أحدهم من قيوده ويلتفت صوب النار. في البداية كانت عيناه مضببتين، غير أنه سرعان ما بدأ يرى موضعه. تحسس طريقه خارج الكهف، وفي النهاية استطاع النظر إلى الشمس. وحين عاد إلى الكهف، لم يصدق أحد ما أخبر به حول العالم في الخارج. الشخص الذي تحرر من قيده شبيه بالفيلسوف. إنه يرى خلف المظاهر. عموم الناس لا يدركون الكثير عن الواقع لأنهم راضون بالنظر إلى ما يوجد أمامهم، بدلًا من التفكر بعمق فيه. غير أن المظاهر خادعة، فما يرونه ظلال، وليس واقعًا».1

ولمناكفة أفلاطون في تحديده لماهية الحقيقة يحاول الفيلسوف الظاهراتي هيدجر أن يستخرج ما لم يقله أفلاطون أو ما يسميه الجانب الذي كان «مطويًا»، مستخدمًا رمز الكهف الذي يسرد حكاية، والحكاية ستنمو وتتطور في حوار سقراط مع جلوكون، حيث يفسر سقراط هذا الرمز من وجهة نظره في محاورات أفلاطون. يقول سقراط: «والآن، قارن طبيعتنا من وجهة التربية بمثل هذه التجربة، تأمَّل هذا: أناس يقيمون تحت الأرض في مسكنٍ أشبه بالكهف، مدخله الممتد إلى أعلى يواجه ضوء النهار، في هذا المسكن يُقيمون منذ الطفولة مقيدين بالسلاسل من سيقانهم ورقابهم بحيث يبقون في نفس الموضع، فلا يملكون إلا النظر إلى الأمام ليروا ما يواجههم، إنهم، بسبب هذه القيود والسلاسل، عاجزون عن التلفُّت حولهم برؤوسهم، في إمكانهم مع ذلك أن يُبصروا نورًا يأتي من أعلى ومن بعيد، وإن كان ينبعث من نار تلمع خلفهم، بين النار وبين المقيدين بالسلاسل (أي في ظهورهم) يمتدُّ في الجهة العلوية طريق بُني على طوله ـ تصور هذا ـ جدار منخفض شبيه بالحواجز التي يقيمها المهرجون (أصحاب الألعاب البهلوانية والعرائس المتحركة) أمام الناس لكي يعرضوا عليهم ألعابه ... وإذا حدث أن أحدًا جذبه بالقوة من هناك وشدَّه على الطريق الوعر (إلى خارج الكهف) ولم يتركه قبل أن يعرضه لضوء الشمس، ألن يشعر عندئذٍ بالألم والسخط؟ ألن يحس، وقد وقف في نور الشمس، بأن عينيه قد بهرهما الضوء الساطع، وأنه لن يكون في وسعه أن يرى شيئًا مما يُقال له الآن إنه حق؟».

ويظل سقراط يوسع الحكاية ويفصل مرسلاتها ويظل جلوكون يعبر بكلمات مقتضبة عن دهشته، إلى أن يصل إلى قوله: «والآن تفكَّر في هذا، لو حدثَ لذلك الذي خرج على هذا النحو من الكهف أن هبط إليه مرة أخرى وجلس في نفس المكان (الذي كان يجلس فيه)، ألن تمتلئ عيناه بالظلمات بعد رجوعه فجأة من رؤية الشمس؟».2

يرد هنا الكهف كرمز للمعرفة التي تحدث في الظلام والتسليم بما وجد الإنسان نفسه فيه، أما الخروج إلى الشمس فهو مغامرة العقل الإنساني التي لا تخلو من المتعة والإزعاج.
ويمضي بنا مارتن هايدجر في محاولة استكناه هذا المثل، فيسلك في كتابه (نداء الحقيقة) طريقًا آخر قد يؤدي بنا ـ كما يقر ـ إلى ذلك الجانب الذي لم يقله أفلاطون ولم يُفصح عنه فكره، محاولًا الذهاب بأمثولة الكهف إلى المدى الأوسع الذي يحيط بحقيقة الحقيقة: «لو فكرنا بلغة الرمز وتخيَّلنا الإنسان وقد التفت فجأة إلى النار المشتعلة خلف ظهره في داخل الكهف، لَوجدنا أنه سيحس على الفور بأن هذا التحول غير المعتاد في الرؤية والنظر إنما هو إزعاج للسلوك المألوف والظن الشائع، بل إن مجرد التفكير في مثل الموقف الغريب الذي يُنتظر من الإنسان أن يتَّخذه في داخل الكهف سيرفض رفضًا باتًّا؛ لأنه هناك في الكهف يعتقد أنه يمتلك الواقع امتلاكًا كاملًا واضحًا لا لَبْس فيه، هذا الإنسان الذي يحيا في الكهف متشبِّثًا برأيه لن يكون في وسعه أن يحس أدنى إحساس بأن واقعه قد لا يكون إلا ظِلًّا، وكيف يتسنَّى له أن يعرف شيئًا عن الظلال إذا كان لا يُريد أن يعرف أي شيء عن النار المشتعلة في الكهف ولا عن الضوء المنبعث منها». ورغم أن أفلاطون صاغ مَثَله انطلاقًا من أن الحقيقة موجودة ولابد أن نسعى إليها إلا أن العلم التجريبي الذي تنقل من حقيقة يقوضها إلى حقيقة أخرى وصولًا إلى نظريات النسبية والكوانتم، تناغم مع فلسفة ترى أنه لا توجد حقيقة مطلقة، ولكن حقائق متغيرة تفسح المجال بعضها لبعض.

والحقيقة الوحيدة أنه لا توجد حقيقة ثابتة، والاعتقاد بهذا هو الذي سيجعل الحوار بيننا غير متشنج ولا متعصب ولا عالي الصوت. وسبيلنا هو العقل الذكي وتمرينه بالعلوم المحفزة التي تزيد من لياقته، فمثلما في حياتنا اليومية، نعتقد في/ ونستفيد من إبداع ونتاج الدماغ البشري التقني الذكي، من وسائل مواصلات وتواصل ولقاحات وأدوية وتكييف ومكبرات صوت وقنوات فضائية علينا أن نعتقد في/ ونستفيد من نتاج هذا الدماغ نفسه فيما يخص الفكر والفلسفة وعلوم الاجتماع والنفس والاقتصاد وغيرها من العلوم الساعية للحقيقة، أو الحقيقة المتغيرة، عبر تفعيل العقل الإنساني المغامر. يقول المفكر والسياسي المحنك هنري كيسنجر إنه درس الفلسفة لا حبًا في أفلاطون وأرسطو أو سواهما، وإنما لأن «الفلسفة لا تترك خلية واحدة في الدماغ عاطلة عن العمل».

1ـ تاريخ موجز للفلسفة للمؤلف نايغل وربروتن ـ ترجمة نجيب الحصادي. تحت الطبع.
2ـ نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر. دراسة وترجمة عبدالغفار مكاوي.