Atwasat

جيمي يا شاعري الجميل.. لا قرابين هنا!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 23 يناير 2024, 03:33 مساء
أحمد الفيتوري

لم يكن ممكنا أن ينام قبل أن تغلبه الأحدوثة
تنشب مخالبها في حنايا الوسادة
وهو يحلم... ويحلم...
هكذا تأتي رسائل البرق على عجل تطرق الباب
وتعود...

تائه في حديقة الموسيقى، التي يعزفها جمال القصاص على كمان الشعر حين «كانت هنا موسيقى»، تائه «من أعلى بمحاذاة الموسيقى»، لا يبتغي للطريق طريقة فلكل قارئ قراءة، فيجب ما يجب ألا آخذ الديوان بقوة، لأن العقل يعقل الشعر، كما التأويل الذي ينثر القصيدة. ومن ذا جذبني إن كانت هنا موسيقى، ففتشت في مكتبتي التي تضم كامل دواوين جمال القصاص الأخيرة، هل تركت الموسيقى في هاتيك الدواوين؟، هل ما مضى مضى؟، هل يرثي الشاعر هذا الذي مضى؟ أم أن عنوان الديوان، ليس فاتحة ألف ليلة وليلة: «افتح يا سمسم»؟.

اسم الديوان شارة كما بشارة في خاتمة جاء فيها: «يا ديواني الجديد/ يا حارس جوعي وظلي/ اطمئن/ لن أذهب لمعرض الكتاب/ اعتدت رائحة روحك هنا/ لا أعرف ماذا يفعلون هناك/ ثمة بشر يدخلون يخرجون.../ بشراهة يفتشون في عين الكاميرا عن نكتة بالية/ تذكرني بأغنية الممثلة الصلعاء». وهذه المحاورة تنثر الشعر، فتجعل النثر شعرا وفي صيغة مخاطبة تستحوذ على الديوان، ما تجعله يتسرب في سلاسة سردية، فالشاعر يخاطب هذه المرأة المهيمنة في هذا الديوان، وما قبله، فتبدو فيه كما قطة البيت، ما يبرز في جمل ظلالها يرسمها القصاص، بحنكة ساعي البريد، من لا يكل لأجل إيصال الرسالة/ الرسائل.

الديوان يشي، بما في مقطع كهذا، وسائر شعر القصاص، خاصة في الدواوين الأخيرة، ما يوميء بشعرية سيروية، لا تتكيء على السردية لكنها تتلبس روحها، هذه الشعرية تنزع قشرة الماضي متقاطعة مع التاريخ، فكأنها يوميات جمال القصاص، ما يفتك الشاعر منها رائحة المكان ومذاق الزمان كطباخ حاذق. وفي هذا وعلى صفحته بالجدار الأزرق يكتب جمال القصاص الناقد: «أنا لا أكتب القصيدة، ولا هي تكتبني، كلانا يفتش في الآخر، عن شيء ضاع منه...»، فهل أنه يبحث عن الزمن الضائع ويكتبه؟.

تكنيك الكتابة الشعرية يتمظهر في عفوية وانسياب متدفق، ليس ثمة فكرة مسبقة، ولا ذهنية تشغله في النص عن النص، ما لا يعقله عقل عن أن يكون، فالمفردة ابنة الجملة التي بدورها تلد جملا، والمفارقة رديف النص لأن الشعر مصاب برشح الدهشة، ما نسيجها طفولة بريئة من الزمن، منزوعة دهن المكان، إلا إن كان مطبخ البيت «أحب كائنات المطبخ/ تحررني من ربكة الوجود» أو الساحة قبالة البيت عند نافذة المطبخ حيث شغب صبيان القصيدة وما شابه. وفي هكذا نص حسية مفرطة، حتى تكاد تشم الطعام ورائحة الجسد، فالشاعر يكتب بحواس شبقة تجاه الحياة: «أيتها القصيدة/ يا طفلتي النزقة/ لا تغلقي عينيك/ تذكري أن فوق سريرنا/ دائما تولد الحياة». قصائد القصاص كائنات مستقلة نهمة للحياة، تنسج دهشة قماشتها من كل اعتيادي، ترافق القصاص وهو يقص أثر الحياة حياته، التي أكسجينها الحب للمرأة، التي تخربش قلب الشاعر/ قلب الديوان، ما فيه وبه يستخلص زبدة أن تعيش في نائمة تفاصيل، تشحن المفردات قبل الجمل بمعنى الوجود، ودون تقصد مفرط.

الديوان ديوان يحتوي مسارين أو سياقين شعريين فيبدو كما ديوانين، فالبنية الشعرية ضفيرتاها متوازيتان متقاربتان، فممكن أن يكون الديوان الأول من «كانت هنا موسيقى»: «تحفر ملجأ سريا لها في النص» كونشرتو الغزل، فيما الثاني «أجرب أن أكون ساعي البريد»: الشاعر في المرآة المعلقة في مطبخ البيت، في عيون الأصدقاء، ثم ختامها مسك الحنين إلى رحم الأم التي افتقدها جمال، فأصيب مبكرا باليتم: «صباح الخير يا أمي/ أكثر من ستين عاما وأنا أفتقدك/ لا أعرف ما مضى ولا ما سيأتي/ في هذا العالم المجنون القاتل...» ويكثف ذا النص مسألة الشعرية السيروية، التي تجيء في مفتتح الديوان، بصيغة ضمير المتكلم، تنساب ببداهة وببساطة الحكي: يوما ما/ كنت طفلا/ كنت أعرف أن رائحة الخبز تشبهني/ أن في الأسبوع سبعة أيام/ في السنة اثني عشر شهرا/ أنني ولدت في الخامس من ديسمبر...».

«أنت هنا موسيقى» كونشرتو مؤلفه وعازفه، آلته وحيدة، لكن خلفه فرقة كونها بتؤدة وعناء من الدواوين والأصدقاء، فشعريته كما جيمي الشاعر الجميل من لا قرابين له هنا والآن، فجيمي من سائر البشر.....