Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي (1952- 1969) (2)

سالم الكبتي الأربعاء 17 يناير 2024, 05:19 مساء
سالم الكبتي

.. وفي الواقع تصعب، من الناحية التاريخية، الكتابة الشاملة، بكل دقة، عن بدايات أو تكوين التنظيمات والخلايا العسكرية السرية في الجيش الليبي في المدة المذكورة، مثلما هو الشأن لعديد القضايا والموضوعات الأخرى السياسية كنشأة وتكوين التنظيمات السياسية بعد الاستقلال بطريقة غير علنية في أغلبها.

من ضمن الأسباب التي تتحدد في تلك الصعوبة هو أن هذه التكوينات، وخاصة العسكرية منها، بدأت أو شرع في تأسيسها في فترة الخمسينيات من القرن العشرين. والصعوبة تتمثل في أن الباحث أو المتابع لا يجد أمامه مذكرات أو كتابات أو شهادات أو أوراق أو تسجيلات عن هذا الذي نحن بصدده من أصحابه أو قادته ومعاصريه أو ممن أسهم فيه بالعضوية والنشاط في ذات اللحظة.

هذه الفترة التاريخية مهمة في مسيرة ليبيا الحديثة رغم حداثتها.. فهي قديمة وبعيدة الآن وأغلب من قام أو شارك يتوارى في ذمة الله عبر أطياف التاريخ. وعلى هذا ظل اللجوء، ما أمكن، إلى المصادر الشفاهية أو الروايات وهي مهمة هنا الآن جدا.. ظل أمرا مفيدا وضروريا من قبل من انتسب أو شارك أو فكر في هذه التنظيمات سياسية أو عسكرية وقد حاولت بتواضع ما وسعتني المحاولة إلى السعي نحو الكثير من هؤلاء المعنيين سواء في التنظيمات المدنية أو العسكرية، وهي أمور حساسة وخطيرة لديهم بحكم الظروف التي كنا نعيشها وكنت في حقيقة الأمر أصطدم مع قلة توفر المكتوب والمدون والمسجل بعامل الخوف والتردد الذي كان يشمل أعضاء هذه التنظيمات. إن الخوف ظل يسيطر على النفوس في أغلب الوقت وجعلها تحجم عن رواية ما حصل بالتدقيق. فالبعض أشار إلى ضعف الذاكرة. البعض قال بأنها مرحلة وانقضت.

البعض أشار إلى أنها مجرد إرهاصات أو تأثيرات لواقع عربي عشناه وتبدلت أموره الآن. والبعض كان يعرف تماما أن المرحلة (الثورية) التي تعيشها البلاد من 1969 قطعت خطوط التواصل مع أية جهود سبقت تنظيم الضباط الأحرار عسكرية أو مدنية واعتبرت أن هذه التنظيمات حركات رجعية وصدى لماض انتهى وأن ما كان منها عسكريا لا يعترف به ولا يشار إليه باعتبار أنها لا تسعى لتحقيق ثورة بالمعنى الصحيح. هي مجرد محاولات للانقلاب أو الاستيلاء على السلطة. أما الثورة الحقيقية فهي التي نجحت من قبل الملازمين الصغار الذين كان يستهزيء بهم قوادهم الكبار داخل الثكنات أو منذ كانوا طلابا في الكلية العسكرية في بنغازي. كان الضباط الصغار يقولون لاحقا بأننا قمنا بثورة والثورة مثل القاف تأتي مرة واحدة في القرن أم الانقلاب فهو مثل القاف في الدقيقة يقع مرتين!!.

وهذا أنشأ نوعا كبيرا من التصادم الصريح والخفي بين هؤلاء الضباط مع الضباط الكبار في الجيش. قاموا بتصنيفهم وتتبع نشاطاتهم ودراسة شخصياتهم وسيرهم وأطلقوا على البعض منهم ضباط المرسيدس أو ضباط الشلحي أو ضباط الاطيوش..... وهكذا. وجد أغلب الكبار أنفسهم إلا فئة قليلة في السجن ثم في السفارات في الخارج وبعضهم في وظائف مدنية لا تتماشى وتخصصه الأصلي. فيما أبقى الوضع الجديد على بعضهم في الاستفادة منه في مواقع الشرطة والمرور أو مفاتحة البعض منهم في الأصل أثناء الإعداد للتغيير للمشاركة في أحداثه إضافة إلى غيرهم ممن عمل في مواقع عسكرية بإدارات الجيش. أبعد الكثيرون تحسسا وربما خوفا من أي تأثير قد يستمر لهم في المجال العسكري رغم أن ذلك يعد شيئا بعيد الاحتمال!

وبهذا الذي حصل عبر صفحات التاريخ المعاصر الذي صار الآن في أطياف التاريخ وألوانه.. ضاعت فرص كثيرة مهمة لتدارك ما ضاع من تاريخ هذه المنظمات المدنية والتشكيلات العسكرية وفقدت بذلك الفترة الليبية التاريخية المعاصرة صفحات بالغة الأثر يصعب تعويضها أو سد ثغراتها بالصورة العلمية الصحيحة. كان الخوف والإحجام يعتري الكثير من هذه الشخصيات ولها في رأيي كل الحق في ما تراه. لم يكن النظام متساهلا أبدا مع ما يخالف روايته للأحداث التاريخية التي تظل تتغير كل مرة عبر الخطب واللقاءات والندوات. ورأينا كيف أكره أو أجبر مجموعة من الضباط على ذكر أو إيراد معلومات لا توافق ما عاصروه أو ما عرفوه ووقفوا عليه تحديدا. بعضهم هدد على القول بما يماشي رؤية النظام في كرامته وعرضه وعائلته والأمثلة كثيرة!!.

وأنا أعزو هذا الإحجام إلى هذا العامل الخطير والمخيف الذي يظل في تفكير من يفكر في الحديث عن فترة عاشها داخل الجيش أو غيره وأسهم الخوف الذي يطل برأسه مثل غول رهيب في المزيد من الخوف والتهرب أو الاعتذار وفقدان الوثائق. وهنا ألتمس العذر لهؤلاء جميعا في أن الخوف أسلم والترك أيضا وإيثار السلامة يأتيان في الدرجة الأولى. ولكن، بالرغم من هذا الذي يخيف، تواصلت مع الكثيرين ممن كانوا أعضاء في الحراك السياسي المدني وكذا السري العسكري. ولم يبخلوا بشهاداتهم. التقيتهم عدة مرات وبحكم المعرفة والثقة استطعت أن أصل إلى حقائق كثيرة منها ما أعرضه في هذه الحلقات عن الجانب العسكري الذي لم ينل حقه من الدراسة والمتابعة. تحدثت والتقيت وسجلت في ظروف بالغة الدقة من شخصيات عسكرية بارزة كان لها دورها قبل عام 1969 وما بعدها. منهم رؤساء أركان وآمري أسلحة وصنوف وضباط وحدات ومعلمون في الكلية العسكرية وضباط في الأمن الحربي والاستخبارات وبعض من أعضاء قيادة تنظيم الضباط الأحرار وخلاياه. وأترك ما أكتبه للتاريخ وحده.

وللإفادة الدائمة والضرورية من أطياف التاريخ لابد من عرض دور الجيوش في المنطقة العربية وأحلامها في التغيير. لقد تكون بعضها في ظروف الاحتلال الأجنبي وأسهم في تحرير بلاده. وصار ضباطه مضرب المثل في التضحية والنزاهة وبعضهم شارك في إدارة المسؤولية والدولة عقب التحرير والاستقلال.

عام 1936 وقع الانقلاب العسكري الأول في المنطقة في العراق بقيادة بكر صدقي ثم في الاربعاء 30 مارس 1949 حدث الثاني بقيادة حسني الزعيم في سوريا. توالى سقوط حبات المسبحة فوق حبات الرمال وحقول الألغام. الزعيم ومن بعده آخرون بلا انقطاع. كانت نكبة فلسطين والهزيمة ماثلة في أذهان العسكريين العرب. ذاقوا كأس المرارة والخيانة في رأيهم فوق تلال فلسطين الجريحة وعزموا على الثأر ومعهم نهض بالمهمة القوميون والعروبيون.

ثم الأربعاء 23 يوليو 1952 في القاهرة حركة الجيش المباركة تحاصر عابدين وتحتل الإذاعة. الاتحاد والنظام والعمل وهيئة التحرير وارفع رأسك يا أخي ومعارك التحرر والمواجهات ويقود ذلك العسكريون ويتصدرون المشهد. ومن بعدهم يوم الاثنين 14 تموز 1958. نهاية قصر الرحاب عند دجلة في بغداد. المذبحة والدماء. عبدالكريم وعبد السلام ومعهما الكثير إلى أم المعارك وما بعدها. كل دبابة طلعت تغني "من بيت أبوها" وكل بيان جديد وكل بلاغ وذبح الرفاق من أجل العروبة وفلسطين.

خلال ذلك يوم الاثنين 18 أغسطس 1958 بعد شهر وأربعة أيام من الذي جرى وسط قيظ بغداد، طلب بخط الحبر الأزرق يكتبه في سبها التي تعيش أيضا صيفا حارا الطالب معمر بومنيار بمدرسة سبها الإعدادية البعيدة في جوف الصحراء إلى الملك إدريس في طبرق عند شاطيء البحر. يقول فيه أنه من أبناء وأحفاد المجاهدين ويرجو قبوله في الكلية العسكرية الملكية التي افتتحت في بنغازي قبل عام من تاريخ الطلب المذكور. بانوراما الأحداث وأطياف التاريخ. الرمال وتخوم الصحراء. وحلم تغيير فلسطين والتغيير يقوده وبعض صحابه في أكتوبر 1963 إلى باب الكلية في بوعطني. ثم يتخرج بعد سنتين وبعدها بأربع ينجح تنظيمه في ضرب التنظيمات الأخرى.

 أغسطس 1965 تتخرج الدفعة السابعة. تتوزع على وحدات الجيش. قوامها اثنان وخمسون ملازما. الاثنين أول سبتمبر 1969 بنغازي شارع أدريان بلت. معسكر قاريونس. البنادق تدق استوديو الإذاعة. البيان الأول. التغيير والقضاء على الفساد وتحرير فلسطين وكلمة السر القدس. حدث الذي حدث..
ليبيا في مرحلة جديدة تمنع الكثيرين عن الكلام!!