Atwasat

ضمير

منصور بوشناف الخميس 11 يناير 2024, 07:03 مساء
منصور بوشناف

وسط طوفان هائل من الأكاذيب وعمليات التزوير للتاريخ التي اجتاحت وما زالت تجتاح الرأي العام الأوروبي والأمريكي عن فلسطين ومشروع «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم لتوطين مهاجرين يهود لها من كل بقاع الأرض، لتكون أرض الميعاد التي وعدهم بها الرب منذ ثلاثة آلاف عام كما يقولون، كان ربما من المستحيل أن تخرج أصوات تقول الحقيقة وتعري الأكاذيب التاريخية التي روجتها الحركة الصهيونية وتبنتها الدول الاستعمارية كمشروع استيطاني لشعب عاش الشتات والاضطهاد لقرون طويلة وجندت لها العقول والفنون والكتب لترسيخها كحقيقة تاريخية وكحق للصهاينة لإقامة مستوطنتهم العنصرية على أرض شعب آخر بعد طرده منها وإبادة من يبقى منهم أو يحاول الدفاع عن حقه فيها.

تلك الأصوات التي تصدت لهذا الطوفان كان أهمها وأقواها تلك الأصوات اليهودية التي خرجت من وسط اليهود والأهم أن بعضهم كانوا أبناء وأحفاداً لناجين من الهولوكست أو المحرقة النازية التي كانت أهم ذريعة للحركة الصهيونية لإقناع العالم بمشروعها الاستيطاني العنصري.

«نورمان فنكلستاين» المفكر الأمريكي اليهودي هو ابن لأم وأب كانا من الناجين من تلك المحرقة، درس العلوم السياسية والتاريخ، والمفارقة أن رسالته لنيل الدكتوراه كانت لدحض ما كانت تروج له الحركة الصهيونية من مغالطات تاريخية ودينية وسياسية عن فلسطين.

عانى «نورمان فنكلستاين» اضطهاداً فكرياً وسياسياً كأستاذ جامعي وكمفكر وتعرض لحملات تشوية لا حد لها وأوقف عن التدريس بالجامعة، ولكنه ورغم كل ذلك ظل يدافع عن آرائه وحقوق الشعب الفلسطيني ولاشرعية المشروع الصهيوني الاستيطاني واصفاً إياه «بمشروع الميز العنصري والإبادة العرقية للشعب الفلسطيني» وواصفاً أعمال المقاومة الفلسطينية بأنها «أعمال مقاومة مشروعة».

أهم معارك «فنكلستاين» التي يخوضها الآن دفاعاً عن غزة ضد حرب الإبادة التي تشنها عليها إسرائيل هي دحض الأطروحة الصهيونية التي تقول إن معاداة إسرائيل الصهيونية هي معاداة للسامية وإنكار للمحرقة النازية ضد اليهود فهو يردد دائماً: لا حق لإسرائيل باستخدام قضية المحرقة وعداء السامية كمبرر لجرائمها، بل ويبرهن دائماً على أن ما تقوم به إسرائيل هو جرائم لا تختلف عن ممارسات الإبادة النازية ضد اليهود وسياسات عنصريّ جنوب أفريقيا.

«نورمان فنكلستاين» وقبله «تشومسكي» وغيرهما من المفكرين والمثقفين اليهود يبرز الآن صوتهم كتيار ديمقراطي حقيقي يفرض منطق الضمير والانتماء لقيم العدالة والديمقراطية والتنوير التي طمستها حركات الاستعمار وحولتها إلى شعارات تستخدم حسب مصالحها وتحقق أهدافها في سلب الشعوب ثرواتها وأراضيها باسم العدالة والديمقراطية وحتى حقوق الإنسان.

المقاومة الفلسطينية وتصديها لحرب الإبادة التي تخوضها الآن إسرائيل ضد غزة منحت هذا التيار القوة والمصداقية، فقد صار بإمكان هذا الضمير وهذه الأصوات أن تُري الرأي العام العالمي البراهين الدامغة على صدق رؤاها عن إسرائيل ككيان عنصري يرتكب جرائم ضد الإنسانية مدعياً الديمقراطية وحقوق الإنسان.

في كتابه «غزة.. التحقيق في استشهادها» يقدم فنكلستاين حقائق مخططات إسرائيل لطرد الفلسطينيين من غزة وضمها لمشروعها الاستعماري الاستيطاني ويكشف ممارساتها في الإبادة بحق الشعب الفلسطيني وعبر سياسة التهجير والميز العنصري.

في هذا الكتاب يحاور «تشومسكي» عن فلسطين ويشارك آراء المؤرخ الإسرائيلي «باباي» المناصر للقضية الفلسطينية والداحض بأبحاثه التاريخية مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» وشرعية وحقيقة وجود الفلسطينيين التاريخي بفلسطين.

«نورمان فنكلستاين» بعد سنوات طويلة من النضال ضد الاستيطان وضد الصهيونية كمشروع استعماري بالبحوث التاريخية والسياسية يعلو الآن صوته وتكتسب أطروحاته مصداقية كبيرة وكل ذلك بفضل مقاومة حماس ومنظمات المقاومة الفلسطينية لحرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل ضد غزة.

لم يخلُ العالم من ضمير يناصر القضية الفلسطينية، ولكن ذلك الضمير كان دائماً بحاجة لقوة مقاومة تمنحه المصداقية والثقة.