Atwasat

عصفور طل من الشباك

جمعة بوكليب الأربعاء 10 يناير 2024, 03:22 مساء
جمعة بوكليب

«عصفور طل من الشباك وقاللي يا نونو خبيني عندك خبيني». هذا ما تقوله كلمات أغنية حزينة، أرسلتها إليَّ، عبر الماسنجر، صديقةٌ، تقيم «في بلاد الرجال*» ذات مساء شتائي بارد.

كانت المغنّيةُ تتوسلُ بصوتها الشجي، على لسان عصفور، يتسوّلُ لُجُوءاً. أنا عشتُ في بلاد الناسِ لاجئاً أكثر عمري، وأكادُ أموتُ اختناقاً من الغربة. وصديقتي لم تجرّب بعد معنى العيش في بلاد غريبة، وفي لغة غريبة. لكنّها، مثلي، تعاني من الاختناق، نتيجة افتقاد الحب، وتعيش في مدينة على شكل حصن قديم، بأسوار وحرس، تصحو وتنام على إيقاع بطيء ومكرر ومضجر. وخارج أبوابها العتيقة تنشط الحياة وتمرح لاعبة.

صباحٌ رماديٌ باردٌ وممطرٌ. يطلُّ عليَّ بنور شحيح، عبر زجاج نافذة غرفة نوم صغيرة الحجم، وأنا مضجعٌ في سرير زوجي يحتلُّ نصفها. النافذةُ عريضةٌ. تطلّ على شارع باسم أعجمي. بين الشارع والنافذة، حديقة أمامية، تتموضعُ بها شجرةُ كرز ياباني- Japanese Cheery، جرداء الأغصان.

في سنوات مضت، حين قادني موظفٌ صغيرُ السنّ، يعملُ في وكالة بيع وشراء عقارات إلى البيت، للمرة الأولى بغرض إلقاء نظرة قد تشجعني على شرائه، أو الانصراف عنه والبحث عن بيت آخر، كان الفصلُ، على ما أذكر، ربيعاً طريًّ العُودِ والأنفاسِ ودافئاً، والوقتُ قرابة الظهر. وكانت الشجرةُ، حين رأيتها للمرّة الأولى، تقع في جانب من حديقة البيت الأمامية، على يمين الداخل من البوابة، وارفةَ الأغصانِ، ومزهرةً. اقتربت منها ووقفت قربها أتأملها، وكأني لم أرَ شجراً من قبلُ، في كل حياتي. في حين أن موظف الوكالة، فتح باب البيت الأمامي ووقف على عتبته ينتظرني، وفي عينيه نظرة استغراب، وهو يراني أحوم ببطء حول الشجرة، متمتماً بلساني العربي، وبصوت بدا مسموعاً له.

فقال ساخراً، وبلكنة إنجليزية لندنية: إذا أعجبك البيت وقررت شراءه، يمكنك أن تحادثها كل يوم. اكتفيتُ بالصمتِ، ثم توجهتُ نحوه، ودلفنا إلى داخل البيت. لدى خروجنا بعد الفحص. وقبل المغادرة، وقفتُ على العتبة، وعلى شفتيّ ابتسامة لا تُرى إلا على شفتي قائد عسكري، في لحظة زهو بانتصاره، وهو يتأمل أجمل قطعة في غنائمه: شجرة كرز- ياباني، ستكونُ، منذ ذلك اليوم وصاعداً، شجرته.

العلاقةُ بيني وبينها تواصلت بمرور الوقت، وصرنا صديقين حميمين. ورغم أن الحديقة الخلفية واسعة، ومعشّبة، وأفضل مكاناً للتدخين، كونها محجوبة عن المارة. إلا أنّي كنتُ كثيراً ما أفضّل التدخين قربها، وكأن التدخين حيلةٌ صغيرةٌ ابتدعتها، كي تتيح لي التخلّص من طعم مرارة وحدتي، وأمنحها فرصة لتبدد وحشتها، وتنعم بأُنسِ رفقتي. في فصول الخريف، الأغصانُ المثقلةُ بالأوراق تتعرّى، وتصير جرداء. وتصبح الشجرةُ، للعين المُحِبةِ، مجرد هيكل خشبي محزن.

في نهاية الشتاء وبدء الربيع، أكون شاهد عيان على مولدها ثانية. ومن نفس الموضع والمكان، كل صباح، أرصدُ ببهجة تفتق الحياة في الشجرة، وأرى براعمها الصغيرة تظهرُ، وتتفتحُ، وتكسو فروعها وأغصانها بورق أخضر يكاد يضيءُ من شدّة نضارته وطراوته، ويبعث الأملَ في عتم القلب الحزين: قلبي. وأتمنّى، متحسّراً، لو أنني كنت مثل تلك الشجرة، أتجدد بالحياة وبالشباب وبالنضارة والطراوة كل ربيع.

في ذلك الصباح الرمادي والممطر، حطَّ عصفورٌ صغيرٌ فجأةً على إفريز نافذة غرفتي الخارجي، وأثار انتباهي. قلتُ في نفسي ربما كان مثلي، في حاجة إلى رفيق وأنيس. وتذكرتُ الأغنيةَ التي أرسلتها إليَّ صديقتي عبر الماسنجر، ذات مساء شتائي بارد. أغنيةٌ رقيقةٌ، تغنّيها امرأة لا أعرف اسمها، بصوت رخيم وشفيف وحزين، تحكي قصتها مع عصفور أطل عليها ذات صباح من شباك، مستنجداً بها، وقائلاً: «خبيني عندك حبيني».

فهل أفتح نافذتي للعصفور، الذي جاء وحط َّعلى إفريزها الخارجي، في صباح بارد وممطر، وأدعه يدخل ليشاركني غرفة لم يدخلها، منذ سنوات، كائنٌ آخر، بها سرير زوجي، لم ينم عليه أحدٌ سواي، ونافذة عريضة لم يطلْ منها نورُ صبح على أحد غيري؟

• في بلاد الرجال عنوان أول رواية صدرت باللغة الإنجليزية للكاتب هشام مطر.