Atwasat

قريبًا من شط الحرية

سالم العوكلي الثلاثاء 09 يناير 2024, 12:45 مساء
سالم العوكلي

يُحكى أن كاتبًا ضَعُف بصره حتى عجز عن رؤية الحروف بشكل واضح فتوقف عن الكتابة، واضطر مرة لقيادة سيارته في مشوار قصير فاصطدم بشجرة جانب الطريق وتهشم الزجاج الأمامي، دخلت بعض شظاياه عينيه ونُقل إلى المستشفى، وبعد عملية إزالة الشظايا من عينيه اكتشف هو والأطباء أن نظره تحسن بشكل ملحوظ، ومن هذه الحادثة اعتمد طب العيون عملية تجريح أو تمزيط القرنية لتقوية النظر. عاد الكاتب إلى أوراقه وكتابته، وحين بدأ كتابة سيرة حياته تطرق لذاك الحادث الذي كاد يودي بحياته ودمر سيارته ووصفه بالنكبة، لكنه نسي أنه لم يستطع العودة إلى الكتابة إلا بفضل ذاك الحادث.

أصوغ هذا المثال لأطبقه على ظاهرة تنتشر لدينا فيما يخص الربيع العربي وثورة فبراير خصوصًا، فبعض من ينتقدون هذه الثورة ويصفونها بالنكبة، ويسبون أعلى السلطات وينتقدون فسادها ينسون أنها ما وهبتهم حرية أن يكتبوا ذلك دون خوف، مع علمهم أن هذا لم يكن ممكنًا قبل هذه الثورة. ومثلما وهب الحادث الكاتب بصرًا ليكتب به، وهبت هذه الثورة الكاتب حريةً يكتب بها.

**** **** ***

لم أتابع المسلسل الكوميدي «شط الحرية» إلا في هذه الفترة عندما بدأت قناة (218TV) الرقمية تعرض أجزاءه الخمسة على مدار الأربع وعشرين ساعة. وأعترف أن عدم متابعتي له في وقتها ناتجٌ عن حكم مسبق وسوء فهم وتحامل دون تروٍ، لأني حضرت منه في البدايات حلقة أو اثنيتن، ولم يعجبني أسلوب تقديمه لحياة البادية وكأنها حياة لا شيء فيها سوى التآمر والغباء والسخرية، وحسب معرفتي هذا ليس حقيقيًا، حتى إن تحاملي أحال لدي درجة الإقبال العالية إلى هذا السبب كنوع من التشفي في هذه الفئة التي تعتبرها الكثير من الآراء المتعجلة، مسؤولة عن كل ما حدث في ليبيا من كوارث.

لكن حين تابعته أخيرًا، أدركت لعبة المؤلف والمخرج، ثم رؤية المؤلف المخرج، فهو يقدم عملًا كوميديًا ساخرًا عبر رمزية هذا المجتمع الصغير، في نوع من الفانتازيا التي تنأى بالعمل عن المحاكاة الاجتماعية أو الوثيقة، بما يشبه رسم الكاريكاتير الذي يضخم الملامح والوقائع كي يبعث رسالته الساخرة في قالب من الضحك الذي لا يخلو من ألم في معظم الأحيان.

لعبة الزمن فيه ذكية، تلعبها اللغة المستخدمة والإكسسوار والموسيقى المصاحبة، فهو يمزج في كل ذلك بين الماضي والحاضر في مركب كوميدي واحد، وكأنه يقول إن الزمن عندنا لا يسير خطيًا إلى الأمام، لكنه يدور حول نفسه. فالسير الخطي إلى الأمام يعني التقدم وهذا لم يحدث بعد في العقل الجمعي رغم كل المظاهر الزائفة التي توحي بذلك، ما ينمذج مجتمعًا يستهلك نتاجات الحضارة دون أن يهضمها عقليًا وذهنيًا، مرتبك بين رفضها في وعيه والتلذذ بها في لاوعيه. فـ«النجع» و«البراريك» وما يمثلانه من فارق طبقي شكلي وغير مرئي في مجتمعات التخلف، لا يقتصر على هذا المجتمع الصغير ولكن يعكس حال ليبيا كلها، بل حال أمة نسميها (العربية) ما زالت توضع في عديد الدراسات الأنثربولوجية في خانة «البداوة» مقارنة بمجتمعات الضفة الأخرى، وحيث التواصل مع العصر عبر وقائع أو حالات عابرة، تجيء لتبرم صفقتها وتمضي تاركة الحال كما هو وأحيانًا أسوأ: الساتالايت، المسرح، السينما، ثورة المعلومات، المركز الثقافي، الكتب وغيرها، تمر بهذا المجتمع تستهلك وقته وأعصابه، وتربكه دون أن يرتبط بها بعلاقة فعلية، بينما المطالب الاجتماعية تنخفض لتكتفي بالحصول على الماء والضوء.

مجتمع العزلة الدائم الشكوى من التهميش والمسكون بنظرية المؤامرة (أجندة) التي تتكرر كثيرًا، وحين نطبقه على المستوى الليبي فإن كل مصطلحات ونتاجات الحداثة ما زالت غريبة، وفي الغالب يصعب نطقها: الديمقراطية، الانتخابات، صناديق الاقتراع، المسرح، بينما علاقتهم بموارد البلاد علاقة يملؤها التوجس، شعوب لا تجد الضوء بينما تقطع أراضيهم أنابيب الغاز الذاهبة إلى أوروبا حيث مدن النور هناك.

ما يعنيني في هذا السياق أن درجة الإقبال العالية التي حظي بها هذا العمل الدرامي الكوميدي المميز يعكس أيضًا المثال الذي أوردته في البداية، وهذه الدرجة من الرضا والإقبال ربما يرجع سببها إلى جوانب بنيوية تتعلق بطبيعة العمل الفنية، وجوانب أخرى محيطة بهذا العمل وتمثل حاضنته الاجتماعية. فالممثلون يؤدون بتلقائية، وهذه التلقائية ما تجعل الحوارات سلسة ومنسابة وكأنها طبيعية وليست في دراما مصطنعة يتحكم فيها مخرج وأدوات أخرى، بعكس ما كنا نراه في الدراما الليبية من ارتباك وحوارات كأنها تؤدى في فصل دراسي حيث بدايات جمل الحوار ونهايتها لا تخدم هذه السلاسة التي نكتشفها في أحاديثنا العادية، والواضح أن تمتع الممثلين بهامش كبير للتصرف والارتجال أحيانًا وتقمص أدوارهم منح هذا العمل سلاسة مهمة في الحوار وفي إظهار الجانب المضحك في الشخصيات، فكل واحد منا مهما تظاهر بالرزانة والتحكم يختفي في داخله جانب مضحك تكشفه المواقف والالتباسات وسوء الفهم الذي يلاحقنا دومًا. أما ما يتعلق بأسباب نجاحه جماهيريًا فيما يخص البيئة الحاضنة له فهو ما يشكل فعلًا إحدى النتائج غير المنتبه لها للتغيير الذي حصل في ليبيا، حيث الهامش الكبير لحرية الطرح والنقد اللاذع لأعلى سلطات في الدولة وللفساد والأكاذيب والتفاهة لدى المسؤولين، إضافة إلى ما تبع ذلك من تحرير السوق والقطاع الخاص والذي أسهم في إنتاج مثل هذه الأعمال الجريئة بعد التحرر من سلطة القطاع العام ورقابته الصارمة على كل المصنفات الفنية، حيث بدأ جزؤه الأول عصاميًا وبإمكانات ذاتية من إنتاج اتحاد فناني أجدابيا والذي بُث في قناة ليبيا المستقبل، ثم تبنته قناة 218 التي وعت هذا التحول المهم ودعمت الكثير من المبادرات الثقافية والفنية، فدفعت به بقوة عبر إنتاج محفز لتقدم الأجزاء الثلاثة التالية التي لقيت إقبالًا كبيرًا من الليبيين في كل أرجاء الوطن وفي بعض الدول العربية، ومع توقف قناة 218 عُرض الجزء الخامس على قناة ليبيا المسار في رمضان سنة 2023.

وهو أمر ما كان ليحدث قبل الثورة التي حطمت الكثير من قداسات السلطة التي جلدتنا بها لأربعة عقود، والملاحظة الوحيدة التي أبديها أنه في المسلسل نفسه نلمس أحيانًا بعض سخرية من هذا التغيير رغم أن هذه السخرية برمتها ما كانت لتكون لولا هذا التغيير نفسه. فنحن حقًا لم نذهب بعيدًا في مسألة الحريات لكن على الأقل رسونا على شط حرية نُزعت بصعوبة أو قريبًا منها.

أعتذر من الصديق المبدع فتحي القابسي وكل فريق العمل عن حكمي المسبق، وأتمنى لهم الاستمرار في الجهد الذي أجمع عليه الليبيون في كل مكان، وحتى خارج ليبيا في سابقة من نوعها. وما ميز العمل انحيازه التام للقطاع الواسع من الليبيين المتضررين والتعبير عنهم، وعدم انحيازه مع أو ضد أي طرف أو جهة أو توجه معين، واشتغل على فكرة أن ليبيا التي فرقتها الأهواء السياسية والأيديولوجية والصراع على السلطة، ما عاد يوحدها إلا الفساد المنتشر فيها، والانتهازية، وتَصدُّر الأدعياء للمشهد، والكثير من الأوهام التي عراها المسلسل. كما تميز هذا العمل ــ خلافًا للمسلسلات العربية الكوميدية التي تعتمد على نجم كوميدي أو نجمين كي تنجح جماهيريًا ــ أن كل فريق شط الحرية نجوم متساوون في الفرص وفي إمكانية إظهار إمكانياتهم، من جميع الأعمار، ومن الفريق، فالمخرج والمؤلف إلى كل الطاقم متساوون في النجومية، وربما هذا سر من أسرار نجاحه وتلقيه هذا الإقبال الكبير.