Atwasat

عن الصورة

منصور بوشناف الخميس 04 يناير 2024, 06:54 مساء
منصور بوشناف

لا يقول اليونانيون القدماء عن لحظة موت إنسان «لفظ أنفاسه الأخيرة» كما نقول نحن، بل يقولون «ألقى نظرته الأخيرة» أي «التقط صوره الأخيرة» فحياة الإنسان تمتد بين أول لقطة تلتقطها عدساته وآخر لقطات قبل توقف عدساته عن التصوير والأرشفة. ولكننا، وبقية الشعوب، نقول ونحن نودع الميت: نلقي النظرة الأخيرة على المتوفى. والنظرة الأخيرة على الميت مثلت محاولة للاحتفاظ بصورة المتوفى لأطول فترة ممكنة.

النظرة الأخيرة كانت مدخلاً مهماً لأحد مواضيع التصوير وهو رسم الفقيد والاحتفاظ بصورته حياً رغم موته ومغادرته عالمنا، لذا استخدم الإنسان الصورة كتعويذة سحرية لإبطال مفعول الموت والفناء ليصبح رسم الأسلاف والاحتفاظ بصورهم والحفاظ عليها بداية التعبير عن أفكار البعث والخلود وأيضاً بداية تشكل مؤسسة ستنمو عبر التاريخ هي المتاحف.

كان الاحتفاظ بصورة الفقيد أحد مظاهر التعبير عن تقديس وعبادة الأسلاف والإيمان بالبعث وقدرة أرواحهم على العودة لصورتها وللحياة من جديد، وكانت أيضا مدخلاً لعلم بدا سحراً هو التحنيط وخلود الجسد انتظاراً لعودة الروح.

إن الصورة التي أَخذت في البداية شكل الرقش أو الحفر على أسطح الحجر، ثم كان الرسم والتلوين والنحت وصناعة التماثيل والأيقونات المقدسة أداة الإنسان في مواجهة العدم، وسلطة للإنسان على الطبيعة لإخضاع قواها المهددة والمدمرة لوجوده.
الإنسان، وعبر تطور أدوات التصوير لديه، يفرض سلطته على الصورة ويستخدمها كأداة وسلاح لفرض وجوده ومحاولات سيطرته على محيطه.

الصورة أيضاً كانت أداة التواصل مع الآخر البعيد في الزمان أو المكان، فالتصوير سبق الكتابة بعشرات الآلاف من السنين، وظل الإنسان ينقل خبراته ورؤاه عبر التصوير والصورة لقرون طويلة، لتكون رسوماته وأنصابه التي صور بها ما رآه وما اختبره وما تخيله سجله الأول.

مع اختراع الكتابة تحررت الصورة من تصوير العادي واليومي لنقله إلى الآخر وبدأت تتفرغ للتعبير والتمثيل لتتحرر من سلطة الكلام للتعبير عن كثير مما لا يقال والأهم لتسعى لتحويل اللامرئي إلى مرئي. فصورت الآلهة والقوى الخفية والمخاوف والأحلام والآمال لتصبح مواضيع المقدس والغيبي والغامض مواضيعها الأثيرة وتمارس سلطة «زرع المعتقدات» ورعايتها لجني ثمارها مكاسبَ للسلطة التي تمثل الآلهة الحاكمة.

الأديان السماوية سعت لإزاحة سلطة الصورة، فهي لم تعد وسيطاً للآلهة وما عادت تمثل قدرة على استحضارها من الغيب فهي قد تتحول إلى «آلهة بديلة» وتنال التقديس بدل الآلهة، لذا ناصبت اليهودية العداء للصورة فجاء في التوراة «اللعنة على من يصنع صورة منحوتة» و«أحرقوا بالنار الصور المنحوتة».

المسيحية أيضاً اتخذت في بداياتها موقفاً قريباً من موقف اليهودية ولم تسمح بالصور والتصوير إلا على نحو بسيط ومحدود حتى القرن الثامن للميلاد، وكان الخلاف على أشده بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الرومانية بشأن الصورة والتصوير لتنتصر الصورة في القرن الثامن على تحريمها المسيحي وتتحول إلى سلطة، بل ربما إلى السلطة الأقوى للكنيسة. فقد تحولت الصورة إلى إنجيل الفقراء الأميين الذي تنشره الكنيسة.

الإسلام تعامل بحذر مع الصورة وصل عند بعض المسلمين إلى حد التحريم وحدد فريق آخر مجالات محدودة لاستخدامها لا تخرج عنها.

الصورة مارست سلطتها على البشر منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض وحتى الآن، ولكن سلطتها ونفوذها ظلا رهينين بتطور أدواتها وتقنياتها منذ أداتها الأولى الحجر وحتى أدواتها في عصرنا هذا، ولذا ظلت تستخدم كوسيلة وأداة لفرض سلطة أو لتحقيق نصر لسلطة في الحروب بأنواعها المختلفة.

الصورة إحدى أهم أدوات عصرنا الذي نعيش الآن، فتكاد تكون الواقع الوحيد الذي نرى ونعيش، إنها الواقع والحقيقة التي يلتقطها ويؤطرها محترفون لتكون بالنسبة لأبصارنا وعقولنا «الواقع.. الحقيقة» ولتكون كما كانت دائماً أهم أدوات زراعة المعتقدات في عقولنا وترسيخها لتقودنا إلى حيث ما شاء صناعها.