Atwasat

من درنة إلى غزة والذاكرة الليبية الفلسطينية

سالم العوكلي الثلاثاء 02 يناير 2024, 02:46 مساء
سالم العوكلي

«صراع الفدائيين.. كتاب يروي قصصا مذهلة لفدائيين من ليبيا قاتلوا على أرض فلسطين، حيث يروي قادة الجيوش المصرية والأردنية كيف أن فدائيين من ليبيا كانوا يقتحمون المستعمرات والمعسكرات الصهيونية ويحولونها إلى رماد في أقل من دقائق. وقع بين يدي هذا الأسبوع كتاب قلب موازين الفكر والذاكرة والكتابة... عنوان الكتاب «صراع الفدائيين.. الفدائيون الليبيون في حرب فلسطين 1948»، ووجدت الطبعة الأولى في ديسمبر 1968، وأما الكاتب فكان «محمد حسن عريبي: وهو فدائي جاء من ليبيا ليجاهد في فلسطين ويروي في الكتاب رحلته ويومياته وذكرياته وأيامه ولياليه التي قضاها وهو يسير بين الساحل والصحراء ليصل إلى فلسطين، ويبدأ كتابه بمقدمة جامعة مانعة يتحدث فيها عن عدد الشهداء الليبيين الذين سقطوا على أرض فلسطين، ويتحدث عن معسكرات «مرسى مطروح» ويقول في كتابه إن عدد الفدائيين الليبيين كان أكبر وأكثر من عدد بعض الجيوش العربية وإنه لو لم يَحُلْ محافظ مرسى مطروح بين الليبيين والميدان لكان عددهم مثل أكبر جيش في الميدان».

هذا ما نشره المدون الفلسطيني، ثابت العمور، في مدونته: الصالون الثقافي: (يلا بنا نقرأ) وهو يعترف بتفاجئه، بعد 63 سنة، من حجم مشاركة المتطوعين الليبيين في حرب الـ 48 ضد العصابات الإسرائيلية. تلك المشاركة التي كمثل مشاركة الكثير من المتطوعين العرب جرى التعتيم عليها بشكل ملحوظ، بل حتى المناهج الدراسية كانت خالية منها، وقد دفع المتطوعون لمساعدة أخوانهم الفلسطينيين ثمن الصراع بين الملوك والساسة في المنطقة الذي انعكس على الجيوش الرسمية والمتطوعين ما أدى إلى خسارة تلك الحرب، والعلاقة التاريخية بين قادة الجيوش والساسة في المنطقة العربية مبحث مهم يجيب عن سؤال يتعلق بفشل تلك الجيوش عن تحقيق نصر على المغتصبين الصهاينة منذ 1948، وربما يكمن السبب في التعامل مع القضية الفلسطينية على أنها مجرد ورقة سياسية يستخدمها الحكام لإرساء شرعيتهم ودغدغة وجدانات شعوبهم المسكونة بفلسطين.

في كتابه: «مواقف من جهاد العرب الليبيين بفلسطين». الصادر عن دار أفريقيا للطباعة والنشر، يقول السنوسي محمد شلوف، أحد المتطوعين الليبيين: «كانت أولى المعارك مع الأعداء في تلك المناطق مع إحدى القوافل الإسرائيلية التي كثيراً ما يكون مرورها من وادي أبي سويرج الدانجور، وجرى بالفعل الاستيلاء الكامل على إحدى تلك القوافل الإسرائيلية في معركة كانت سريعة وخاطفة وعنيفة جرى فيها القضاء على الصهاينة قضاء تاماً وهو أول انتصار يحققه الليبيون منذ وصولهم إلى فلسطين».. ويضيف: «كان المجاهدون الذين قاموا بسحب تلك المصفحات والآليات الإسرائيلية من الوادي إلى عراق سويدان مقر الكتيبة الليبية هم: إدريس بوشناف العيساوي، وفتحي طلوبه، وعلي البراني، وعبد الفتاح بشون، ومحمد جعاكة، وعبدالعزيز محمد، وعبد الله الشريف، ويوسف الطرابلسي، ومسعود السراوي، وجميعهم عرب ليبيون، والبعض منهم لا يزال على قيد الحياة حتى ساعة كتابة هذه المذكرات، وكان هؤلاء يجيدون قيادة المصفحات من بين أفراد الكتيبة وعددهم أكثر من أربعمائة مجاهد، فقد سحبوها بسرعة فائقة من ميدان المعركة إلى مقر الكتيبة بعراق سويدان، وقد اعتبر أفراد الكتيبة ذلك اليوم عيداً لأول نصر حققوه على الأعداء».

هذا التاريخ المنسي، أو المُتناسَى بشكل منهجي، جعل الطريق إلى الجهاد المقدس ينحرف تماماً مع الزمن، ويذهب في كل اتجاه مشبوه متجنباً أرض النضال الوحيدة في هذا الزمن؛ فلسطين. ينطلق الشباب المغسولة أدمغتهم غرباً وشرقا دون حتى أن يلقوا نظرة على أخوانهم الذين يقتلهم الصهاينة يومياً بدعم من قوى كبرى ومن منظمة عجزت عن تطبيق أي قرار من قراراتها.

يتحول هؤلاء الشباب إلى مرتزقة في يد تلك القوى التي تفتك بالفلسطينيين فيخوضون حروباً تديرها مخابرات دولية تحت اسم الجهاديين، ومنذ أن ذهبوا إلى محاربة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان بدعم لوجستي من المخابرات الأمريكية، أصبحوا لعبة في يد مهندسي هذه الطاقة الجهادية، ليعودوا بعد ذلك بفتوى أن الجهاد الأكبر في الأوطان الأصلية وضد أهلهم الذين يصفونهم بـ «المرتدين»، ولتصبح (إسرائيل) الدولة الوحيدة الآمنة في المنطقة، وشعبها المزعوم الشعب الوحيد الآمن بعد أن تحول ما يسمى بالجهاد إلى الداخل.

ولعل هذا جزء من إجابة التساؤلات التي أيقظها هذا الكتاب في ذهن قارئه، العمور: «أين موقع فلسطين اليوم من الإعراب العربي ومن الاهتمام الشعبي والرسمي؟ بل أين ليبيا التي تُذبح الآن في سلم الأولويات العربية لا بل الفلسطينية؟. (دُوِّن هذا النص فترة الشهور الأولى من ثورة فبراير).

كان الهدف من كل الفتاوى التي تحث على جهاد الأقربين أن يرتد الإرهاب على نفسه تحت مقولة: داوني بالتي هي الداء. وأن نبدأ تدريجيا في نسيان قضيتنا المركزية، فلسطين التي تحولت لسنوات أخبارها إلى آخر الأخبار على شريط أسفل الشاشة، لتصبح معاركنا الطاحنة وعملياتنا الانتحارية التي يقتل فيها بعضنا البعض هي الخبر الأول والخبر العاجل في فضائيات العالم، بينما الفلسطينيون يموتون في صمت وفي عتمة، وهذا ما خططت له دوائر إدارة هندسة الميديا الضخمة المسيطر عليها من اللوبي الصهيوني التي فتحت لها فروعا باللغة العربية في عواصمنا، فكان لا بد لما يحدث في فلسطين أن يتراجع إلى الخلف في الأخبار وفي الوجدان.

ويتساءل المدون ثابت العمور مرة أخرى، بعد أن قرأ عن أولئك الشبان الليبيين الذين مشوا على أقدامهم لنجدة فلسطين: «ما الذي دفع محمد عريبي للقدوم إلى فلسطين مشياً على قدميه تاركاً مدرسته وهو الوحيد لوالديه؟ وهل نفس الأسباب والدوافع لا زالت موجودة عند جيل اليوم؟. ما الذي تغير وما الذي تبدل وما الذي تحول؟. أيفكر أحد اليوم من شبابنا في الذهاب إلى ليبيا لنصرتها والذود عنها والوقوف مع أهلها في محنتهم؟».

نعم ما زالت الدوافع نفسها قائمة، لكن البوصلة هي التي تغيرت وتبدلت، وهي لم تتغير صدفة، لكن نتيجة عمل كبير ومثابر طيلة عقود من السعي لأن تخرج إسرائيل من خارطة النضال العربي، وأن تنشغل هذه الطاقة الشبابية بالداخل وتعمل على إلهاء هذه الدول عن قضيتها الأساسية وعلى تدمير الجيوش المحيطة بهذا الكيان، وهذا ما حصل في النهاية إذ لا نرى (مجاهدا) أو شيخا من شيوخ الجهاد يتحدث عن أرض فلسطين، بل إن الحركات الإسلامية التي استولت على الثورة السورية وانحرفت بها تعطي بظهرها إلى الجولان وفلسطين، واشتركت مع الطيران الصهيوني في قصف الأهداف نفسها، وبعضها يعالج جرحاهم في مستشفيات إسرائيل.

بينما يعلن أحد مشايخهم في ليبيا في لقاء مع شبان ليبيين بقول مفاده: أنتم جيل محظوظ ولن تحتاجوا إلى التغرب أو السفر البعيد للجهاد لأن الجهاد أصبح في وطنكم. وهذا العمى ناتج كما قلت عن برنامج مُركّز وطويل لغسل الأدمغة حتى يصبح كيدنا في نحرنا، ويعيش الكيان الصهيوني المغتصِب في أمان ورفاه. بل إن الضمير الحي تجاه فلسطين نزح من أنظمة هذه الأمة إلى دول في أميركا الجنوبية وفي ملاعب كرة القدم في اسكتلندا.

ويختم المدون الفلسطيني الذي تعرف عن جهاد الليبيين في فلسطين بعد 63 عاما معبرا عن أحاسيسه تجاه ليبيا ما بعد 2011 قائلاً: «ليبيا التي نعرفها ونريدها هي ليبيا عمر المختار وأحفاده وليبيا العريبي وأبنائه، ليبيا التي تأتي عابرة الصحراء لتصل إلى فلسطين.. واليوم ما أشبه ليبيا بفلسطين!!».

حقا، ما أشبه اليوم ليبيا بفلسطين، حيث النازحون أكثر من المقيمين وحيث المنظمات الإنسانية العالمية تقدم المساعدات، وحيث هجرة الشباب والعقول إلى أصقاع الدنيا. والفارق أن ما يحدث في فلسطين نضال مقدس، وما يحدث في ليبيا عبث وإجرام. تسبب العبث والفساد المستمر منذ عام 1969 في مقتل أكثر من 20 ألف رجل وامرأة وطفل في درنة خلال ساعة واحدة، وتسبب العبث الدولي والإجرام في مقتل أكثر من 20 ألف رجل وامرأة وطفل في غزة خلال شهرين. وما زال بعض الساسة العرب وفي ليبيا يتسابقون على التودد إلى الكيان الصهيوني سراً وعلانية، بينما الكثير من اليهود وحتى بعضهم ممن يحمل الجنسية الإسرائيلية تعاطفوا مع الفلسطينيين علانية وأدانوا جرائم الكيان الصهيوني، وهذا ما يثبت أنه ليس كل اليهود صهاينة، وليس كل الصهاينة يهوداً.

وما زالت تلك الروح التي دفعت بالمتطوعين العام 1948 إلى الذهاب لمقاومة الاغتصاب الصهيوني لأرض الفلسطينيين قائمة لكن لا سبيل الآن للذهاب، بل حتى التعبير عن التضامن أصبح محرماً بعد متغيرات كثيرة جعلت من الكيان الصهيوني محمية عالمية تتحالف في حمايتها الدول الكبرى وبعض القوى الإقليمية، وبعد أن أصبح التعاطف مع أشلاء الأطفال الفلسطينيين جريمة تقع تحت بند معاداة السامية، وحتى في العالم السيبراني إذا ما كتبت هذا التعاطف، فسوف يحذف منشورك أو تخسر حسابك تماما كعقاب من منصات التواصل، لأنك تعاطفت مع أطفال من الممكن أن يكونوا مقاومين يوماً ما للاحتلال من قبل قوة غاشمة ومجرمة تحميها قوانين هذا الكوكب التي كتبها الطغاة المتبجحون بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير.