Atwasat

حكايات بيروت (2-2)

سالم الكبتي الأربعاء 27 ديسمبر 2023, 04:57 مساء
سالم الكبتي

الرابعة
الخوف في بيروت.. لكن بيروت أقوى والإنسان كذلك. ستبقى بيروت. سيبقى لبنان. مثل غزة. مثل فلسطين كلها. ستعبران جسر الأحزان إلى العودة.. إلى الخير والهناء. الشرور لا تقهر الثورة والإنسان والحياة وعيون الأطفال وأوراق الزيتون وبيارات البرتقال.

هذه الروشة. الصخرة الشهيرة والبحر. صخرة العشاق والمحبين واليائسين والمنتحرين. صخرة الحمام والنوارس وحيث تسطع الشمس وتنعكس بتوهجاتها على ذلك البحر الممتد إلى البعيد. تلة الصخرة تبدو ومن جوفها تعبر الزوارق. من هنا مر عبد الحليم ونادية خلال الفيلم الشهير (أبي فوق الشجرة) عام 1969. صور ولقطات وأما رمانا الهوى تصدح بلا توقف. عاش جيل على أحلام الفيلم وحبس في صدره آماله وأغانيه وممثليه. كان الفن محطة ثابتة في بيروت. ازدهر وانطلق ولم يتوقف تلك الأيام.

الروشة وأهل بيروت منذ الصباح يتريضون مشيا أو هرولة ذهابا وعودة على الرصيف الطويل والبحر يجري مع تلك الخطى. يستقبلون شمس الصيف والشتاء صباحا ومساء. والصخرة والتلة والحكايات لا تغيب مثل أساطير السندباد. وصبايا وأطفالهن في حالة من الحزن والعوز والاستجداء لعيون المارة.. لكن ثمة معالم تغيرت أيضا. مقهى ومطعم دبيبو ناله ذلك الأمر القاسي. مكانه تعوي فيه الريح العقيم. خال من الحركة ورائحة القهوة والشواء والأرجيلات واللقاءات والسهر. كان على الدوام ملتقى للأصدقاء والعائلات والفنانين والمثقفين وكل الأطياف. بيروت تلتقي هناك. تسهر هناك. تحكي هناك. مثل الحكايا في الحمرا والزيتونة وسوق الطويلة وساحة البرج. دبيبو يطل على البحر والروشة. النسيم وشمس الضحى وقمر الليالي وصقيع ديسمبر ثم يناير. دبيبو حيث كان فوق التلة وتتكسر الأمواج تحته.. رحل أصحابه وغادروا.
الورثة يفكرون في بيعه منذ فترة. لكنه في ذات الوقت مهجور وموحش وتعوي فيه الريح ويزأر الفراغ ويغمره الحزن والفقد. اختفت الكراسي وطاولة الزهر والحكايا والضحكات. ذكرياته فقط تدب مثل النمل فوق معالمه وأطلاله المتداعية. سبع طوابق من الأعلى إلى الأسفل عند قدمي البحر والبحر العميق الممتد بلا نهاية يحكي قصصا وحكايات غابت عنه منذ زمن.
بيع التاريخ والمعالم شيء يعقر الصدور.. لكن ليس ثمة حيلة.
تلك الصخرة الشامخة. ذلك دبيبو. كان علي خليفة الزائدي يحب ذلك الذي هناك. ركنه معروف. الخمس وبيروت. لبنان وليبيا. سبتيموس وكركلا. مؤسس كشاف ليبيا. مكانه المفضل وركنه هناك. يجلس مع أصدقائه وجيله وتلاميذه.. مصطفى فتح الله. محمد الهبري. رشيد شقير. يحي النصولي. عمر الزعني. محمد منيمنه. يوسف دندن. قاسم جمول وعلي الدندشي عندما يأتي من دمشق.. وغيرهم. أسهم في بناء كشافة لبنان. كان أسسها الشيخ الجليل توفيق الهبري. رعاها وشجعها قبل الأخوين عبد الجبار ذوي الأصول الهندية. الثابت أن المؤسس الذي سبقهم هو ذلك الشيخ. صاحب النسب الشريف. عام 1924 استقبل واستضاف في داره المجاهد أحمد الشريف عندما حل ببيروت. أجازه وتواصل معه. وحين عاد الزائدي إلى بلاده عام 1954 بارك الشيخ الهبري العودة وشجعه على تأسيس الكشفية في ليبيا. نمت وتطورت بطرق تربوية سليمة ومتينة. وحدت خيمة الزائدي شباب ليبيا وسواعدهم. ثم غادر الشيخ إلى ربه في نفس العام بعد وصول الزائدي بأشهر قليلة إلى ليبيا. كان بينهما خلال هذه الفترة رسائل ووثائق مهمة في صفحات التاريخ عن مراحل التأسيس في فبراير 1954. أيام وتاريخ الزائدي والهبري تواصلت ولم تنقطع مع ابن الشيخ محمد أحد قادة الكشاف المشهورين في لبنان.

الزائدي كان من معالم بيروت. كان مقصدا لليبيين القادمين إليها للدراسة أو التدريب أو السياحة. وكان يعتبر (راعيا) لمن بقي من المهاجرين خلالها. وعن ذلك وضع كتابا عام 1953 عنوانه ليبيا في المهجر. سجل عن نشاطهم وحراكهم في ديار الهجرة فترة الاحتلال التي مضت في جوف التاريخ.

دبيبو وذكرياته. ومن بعيد عبر أمواه الشاطيء تلوح معالم الروشة التي تظل باقية رغم الزمن. مسرح فريد الأطرش الذي كان يغني عندما يعود الربيع ويصل إلى الضواحي والتلال. الحلاب.. الحلواني الشهير منذ العام 1881. مطعم زعفران. مطعم زوزو الشهير. مطعم السلطان حسون. وعدد الكثير والكثير. السهرات واللقاءات والتجمعات والحكايا وكل الأطياف والاتجاهات. الثقافة والفن والسمر. فيروز ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وسميرة توفيق ونجاح سلام وكل الأصوات القادمة إلى استوديو بيروت. المسرح وشوشو ونضال الأشقر. وصيحات الرفض والتمرد. الجامعة الأمريكية ومطعم فيصل والمقاومة مع فلسطين. كانت بيروت شعلة لا تنطفيء رغم أن سليم الحص ذات يوم قال..(توجد حرية في لبنان ولكن لا توجد ديمقراطية)!!
وفي دروب المطعم والجامعة نشأت حركة القوميين العرب. الثأر والانتقام. والإيمان بالقضية. الحكيم جورج وجهاد ضاحي وأحمد الخطيب وهاني الهندي ومحمد كشلي وغيرهم. كان المطعم يولد فيه الفكر ويتجدد. ذلك في أوائل الخمسينيات الماضية. ومن بعيد تلامس الأفكار شغاف قلوب شباب العرب. يحلمون بالأمة ومجدها. لابد من الثأر. وهنا الشريف محي الدين القادم من ليبيا يناله بعض التأثر بما يحدث. يراسل الأصدقاء في بنغازي.. مفتاح مبارك الشريف ومهدي المطردي وسالم بوقعيقيص وغيرهم ويحدثهم عن شي ما يعيش في صدره. ثم ينطفيء في فبراير 1955 عند المشنقة في سجن بنغازي.

لكن الحركة تخف. وفي الليل تعود ثم تخفت الأضواء ويزحف الظلام وليس ثمة توهج. الروشة زمان. زمنها لم يعد أيضا مثلما كان.
وفي المقهى جلسة وتطلع إلى البحر والزوارق والنوارس. وقهوة وعصير الجلاب والنادل في شموخ. يقول أنا من الجنوب الصامد هناك. من مزارع شبعا. عنوان المقاومة الوطنية.. التي ستظل.

ورغم الخوف تبقى بيروت ولبنان أقوى. مثلما تبقى غزة وفلسطين أبقى وأقوى بالإنسان وشموخه وعناده. مثل حبات الرمال وأغصان الشجر وأمواج البحر وشباك الصيادين ووجوه اللاجئين وجدران السجون وحكايا الصمود والبطولات. مثل التاريخ المتوهج الذي لا يغيب رغم قبح ونتانة العالم الذي صار على الحافة تماما.. تماما بالضبط من الظلم والكراهية والانحياز السافر مغلق البصر. لن يغيب الإنسان وسط الشرور والركام. سيعبر طريقه عبر جسور العودة نحو الخير والهناء ويطوي أحزانه وراء الأبعاد المظلمة.. ويسير فوق الرماد القديم.

الخامسة

الحمراء. العجقة والزحام. السيارات وأبواقها المستمرة. بعض الأماكن ليست في أماكنها السابقة. المكتبات انتقلت وتحركت من شارع إلى آخر. صديقي عصام عياد.. الشاعر والوراق والمناضل من أجل القضية في تلك الأيام البعيدة. الكتب القديمة والروح الطيبة استبدل مكانه السابق عند البيكاديلي قرب مطاعم بربر إلى شارع عمر بن عبد العزيز المؤدي في النهاية إلى شارع بلس حيث الجامعة الأميركية. تنقل عصام وكتبه من مكان إلى آخر حتى استقر الآن في شارع عمر بن عبد العزيز. جلسات وشاي وحكايات واختيارات. حكايات عن الأمل والألم والبحث عن حلم. واتفقنا على أن حاجات كثيرة تقضى بتركها.. كما يقول الصوفي الكبير أحمد الزروق..

بيروت التي كانت عندما تمطر تفتح بقية العواصم مظلاتها.. لها نكهتها الخاصة بوجود هؤلاء المبدعين البسطاء المنحازين طوال وقتهم للبسطاء أمثالهم فوق الأرصفة. يعتريهم الحزن والأسى لما يدور هنا وهناك. في الحمرا وصولا إلى كل المحيط والخليج.. لكن ما باليد حيله. اليد الواحدة لا تستطيع التصفيق والحمرا ليست مثل زمان.. هل أنا غلطان بالنمرة على رأي الست صباح؟ التي تتصدر لوحتها الضخمة وهي تبتسم ابتسامتها المشهورة جانبا من إحدى بنايات الحمرا عند الهورس شو سابقا. تغيرت الحمرا ومعالمها وملامحها أيضا مع الزمن. الشحاذون يجولون بلا انقطاع ويلحون في الاستجداء والأطفال البائسون معهم. أكوام القمامة. الكتابات والشعارات تملأ الجدران. الليرة في هبوط. المليون لا يفعل شيئا. الدولار في ارتفاع والإنسان في هبوط. من أين للإنسان الكادح المتعب الواصل حده من التعب الباحث عن الخبز والسكينة. من أين له؟

السادسة

والمرفأ بقايا أهراءاته عند البحر تلوح مثل الأطلال وأسماء الضحايا على حائط طويل يحاذي الطريق بكلمات الرثاء والحزن. الحائط يقول ويحكي عنهم بأنهم ماتوا ولن ننساهم. ضحايا الصراع والسياسة والفراغ في البلاد. وترافقك تلك الأسماء على مد بصرك ويعقرك المزيد من الأسى. والتحقيقات ما تزال في مفترق الدروب. ضاعت كما يبدو مثل ضياع الأبرة في (طريق النواجع)!

البلاد الجميلة. لبنان الأخضر الحلو ذات يوم. بيروت والحمرا. عنوانان صنوان لبعضهما. كانت بيروت ثم تراجعت.. ضربت ضمن المشاريع والمخططات التي أرادت للمنطقة ذلك.. وما تزال. مخطط يتلوه آخر وضربة تتلوها ضربات. قتل التنوير ليحل التعتيم. الخذلان الأكبر والتخلي في برود عبر ريح العاصفة عن المساكين والفقراء. والرجال الذين يظلون وحدهم فقط.

مقاهٍ ومكتبات وحكايات. الموضة كانت تنزل في الصباح في باريس وفي المساء تصل الحمرا لتنتشر في المنطقة. اللاجئون والسياسيون والشعراء والمثقفون والمخابرات والجواسيس. والزمن كله كان في بيروت.
ثم الخوف يطل مع الكثير من الحزن والظلام.

ويا بيروت.... يا ست الدنيا. كان زمانك مثل زمان الوصل بالأندلس الذي انقطع.. ولم يتواصل. هكذا حكمة الحياة يا بيروت.
يريدون لك الموت ومع هذا تصرين على الحياة.