Atwasat

إسرائيل ليست وطني

سالم العوكلي الثلاثاء 26 ديسمبر 2023, 02:48 مساء
سالم العوكلي

سؤال دائمًا يراودني حيال الشكوى (اليهودية) من الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في كل مكان وكل زمان، في الأرض ومن السماء. لماذا يؤكدون أنهم اضطُهِدوا في كل مكان حلّوا به على مدى التاريخ والجغرافيا (على ألا ننسى أن الكثير منهم استطاع الاندماج والإسهام بقوة في تاريخ العلم والفلسفة والفن والفكر الإنساني)، لكن بصفة عامة فإن اليهود أنفسهم يقدمون تاريخهم كملحمة تراجيدية يحكمها قدر وجودي وكوني من ازدراء الأمم الأخرى لهم. وهذا لم يحدث لأديان أو مذاهب أو أعراق أخرى عاشت في التاريخ بكل تقلباته، وتعرضت للاضطهاد في حقب مختلفة، وتنقلت في جغرافيا العالم مرغمة أو غير مرغمة. إذًا لماذا اليهود بالذات هم من يحملون وزر هذا القدر التاريخي ويُصدِّرونه للمستقبل؟ ولماذا هم الأمة الوحيدة التي احتاجت لقانون دولي يجرم معاداتها؟. وظلت عديد الأسئلة المربكة عالقة، لكن من خلال اطلاعي على الكتاب المهم: «صنع معاداة السامية أو تحرير نقد إسرائيل»* لمؤلفه أبراهام ملتسر، تلمستُ إجابات معقولة عن مصادر هذا الوسواس التاريخي، وهو يطرح سؤاله الضمني: لماذا ينبغي التعامل مع اليهود وكأنهم تُحف يتوجب حمايتها، أو كمحميات طبيعية يجب الحفاظ عليها!؟، كما يتساءل في فصل «إسرائيل ليست وطني»: «هل انتقاد قمع اليهود لشعب آخر هو بالفعل عداء للسامية؟ لقد سبق لكارل ماركس، وهو ابن عائلة يهودية وحفيد لحاخام، أن قال: إن الشعب الذي يقمع شعبًا آخر، لا يمكن أن يكون هو نفسه حرًا».

المفارقة أن الكاتب الذي يفكك أسباب الشعور بهذا الاضطهاد السرمدي الذي تعرض له اليهود على مدى التاريخ وخاصة في أوروبا، يستثني فترتهم الذهبية التي عاشوها مع المسلمين في الأندلس: «هنا نذكر بأن الفترة التي عاش فيها اليهود والمسلمون العرب مع بعضهم في الأندلس قد أثمرت تعايشًا مثمرًا أثرى أوروبا كلها روحيًا وفكريًا. حتى إن المؤرخين اليهود يطلقون عليها (العصر الذهبي)». وفي سياق حديثه عما تعرضت له إنجيلا ميركل من هجوم وانتقادات بسبب قرارها فتح اللجوء أمام اللاجئين المسلمين، خاصة من سورية، واتُّهِمت بأنها تستورد معاداة السامية، يقر المؤلف أنه حقيقةً «لا تحتاج ألمانيا ولا أوروبا لاستيراد معاداة السامية، فهما قامتا، وعلى مدى طويل بتصديرها. ولنتذكر أن معاداة السامية في الحقيقة منتج أوروبي مسيحي ظهر في أوروبا وشُحذ وتمت تنميته هناك لقرون طويلة. أما في العالم العربي الإسلامي فلم يتعرض اليهود في أي وقت من الأوقات للاضطهاد والملاحقة قط كما هو الحال في أوروبا المسيحية، بل على العكس من ذلك احتضنت هذه البلاد، مثل شمال أفريقيا والإمبراطورية العثمانية ودول البلقان، اليهودَ الذين فروا من محاكم التفتيش الإسبانية الكاثوليكية أو طُرِدوا بأمر منها، ولذلك تعد هذه البلدان هي ما أنقذ حياتهم». مرارًا يؤكد المؤلف أن سبب العداء العربي للصهيونية هو مشكلة الشرق الأوسط واحتلال الأرض، ولا علاقة لها بعداء السامية، وأضيف في هذا السياق أن المضايقات التي حدثت في بعض الدول العربية تجاه مواطنيها اليهود، لم تحدث إلا بعد تأسيس الكيان الصهيوني والحروب التي وقعت تباعًا، وهو أمر تمناه مؤسسو إسرائيل، بل عملوا فعلًا على تأجيجه بطرقهم المعروفة في سبيل تحقيق أهدافهم، فمؤسسات تأسيس الصهيونية التي كانت تحتاج إلى هجرة اليهود إليها ساعدت على مثل هذا التهجير بطرق مختلفة، ويتطرق الكاتب إلى أسلوب من هذا القبيل فيما يخص الهولوكست وعلاقة بعض مؤسسي الصهيونية وإسرائيل بالنازيين «إن الحقيقة غير المعروفة بالنسبة إلى كثيرين هو ذلك التعاون الذي كان يجري حتى بين الصهاينة والنازية خلال فترة التحضيرات لتأسيس دولة يهودية.

فقد شهدت تلك الحقبة تعاونًا على مستوى عالٍ بين الصهاينة والنظام النازي». ويضيف «أن الأمر الذي يتم تجاهله اليوم بكل سرور هو أن الوضع السياسي في ألمانيا قد هيأ في الوقت نفسه فرصة فريدة لكسب اليهود الألمان لمصلحة القضية الصهيونية. ذلك أن أغلبية اليهود في ألمانيا حتى ذلك الوقت غير مهتمين بالهجرة إلى فلسطين؛ وقد باءت جميع الجهود لإقناعهم بالسفر بالفشل. إنه اضطهاد النظام النازي فحسب الذي قدم فرصًا جديدة للصهاينة لتعزيز الهجرة الكبيرة إلى فلسطين. لقد عبر رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية آنذاك، ديفيد بن غوريون، عن أمله بأن انتصار النازية سيُمكّن الصهيونية من أن تغدو (قوة مثمرة)، لأنه من خلال انتصارها ستشجع الهجرة إلى فلسطين». ويرفق هذا السرد للوقائع بإثباتات ووثائق عن المعاهدات التي جرت وحتى صور للعملة التي حُولت بموجبها أرصدة اليهود من ألمانيا (النازية) إلى فلسطين المحتلة.

ينحدر الشاعر أبراهام من أسرة يهودية نزحت إبان النازية من ألمانيا إلى الاتحاد السوفياتي آنذاك، وكما يقول «أما أنا فقد ولِدت في سمرقند، تلك المدينة المعروفة من حكايا ألف ليلة وليلة، والتي تقع على طريق الحرير في آسيا الوسطى، والمعروفة اليوم باسم جمهورية أوزباكستان». العام 1947، حينما كان عمره سنتين هَجّرتْه الوكالة اليهودية مع أسرته إلى فلسطين: «وفي الطريق إلى أوروبا مررنا بالكثير من المدن المدمرة، من بينها مدينة فرتسواف، تلك المدينة التي ولِدتْ فيها زوجتي وكانت قد دُمرت تدميرًا كاملًا في الحرب.

وفي الواقع، حينما أفكر في صورة هذه المدينة المدمرة، التي حالفني الحظ أن أراها مرة أخرى لاحقًا، تنتابني فكرة أن فرتسواف لم تكن بقعة جغرافية ثابتة بل مكانًا ممتدًا في كل الأصقاع: مكانًا يجري فيه قصف البشر وقتلهم، ويجبر الناس على مغادرة قراهم وبيوتهم. فكرة كهذه تقودني إلى التفكير في أن فرتسواف يمكن أن تكون غزة وكل القرى التي أجبِر سكانها على الرحيل، هذا فضلًا عن تفكيري أيضًا في إسرائيل، دولتي، التي تزعم أن الفلسطينيين رحلوا عن مدنهم (طوعًا). بالتأكيد يحوي التاريخ البشري كثيرًا من قصص الشعوب التي هُجِّرتْ من بلادها، إلا أن تاريخنا المأساوي لا يمنحنا الحق ولا لدولة إسرائيل بمصادرة الأراضي وتدمير المنازل واقتلاع أشجار الزيتون التي زرعتها أجيال عديدة ورعتها، وذلك من أجل إيجاد موطن ليهود العالم فحسب. ومن يفعل ذلك فإنه يستهزيء بالمحرقة، ذلك أن العكس هو الصحيح. أقول هذا الكلام باعتباري ابن عائلة لاجئة، فأنا في نهاية الأمر كنت لاجئًا أيضًا».

وبعد رحلة مضنية وسرية رعتها الوكالة اليهودية، حطت بهم سفينة التهجير في ميناء حيفا «الذي غدا الآن يهوديًا» وخُصص لهم أحد بيوت الفلسطينيين المهجرين: «حين دخلنا المنزل، بعد تهجير أهله العرب على يد القوات الإسرائيلية، وجدنا هناك الطاولة التي تركتها العائلة المالكة على عجل بسبب فرارها، وعليها الطعام الذي لم يؤكل موضوعًا. وقد استفدنا من كل ما احتواه بيتهم من أدوات، حيث إننا لم نكن نملك أي شيء، ففي نهاية الأمر نحن لاجئون، وقد فقدنا كل شيء. كان والداي يعبران عن ضيقهما عندما يفكران في مصير هؤلاء اللاجئين العرب». تحصل أبراهام على الجنسية الإسرائيلية، ودرس في المدارس الصهيونية التي تحث على كراهة جنس العرب، لكن حسب ما عرفه فيما بعد من قراءة مذكرات والده، أن والده لم يشعر بالراحة فيما يسمى إسرائيل: «فكل ما في إسرائيل ذكّره بفترة قبيل سيطرة النازيين على الحكم». ويستنكر والده انضمام ابنه إلى حركة شبابية شبه مسلحة: «حيث كان يهمس أحيانًا: شبيبة هتلر لا يختلفون عنها. لهذا كان من الطبيعي مغادرة إسرائيل مباشرة حين سنحت له الفرصة».

كان عمره 13 سنة حينما عاد إلى ألمانيا، وتحول مع الوقت من «إسرائيلي» إلى «يهودي ألماني» ندر عمره لتعرية الخرافات والأكاذيب التي بنيت عليها الصهيونية ومستوطنة إسرائيل وما ترتكبه من جرائم يقارنها بجرائم الهولوكست مع تأكيده على المقارنة وعدم المطابقة.

يقول في مقدمة تصديره للترجمة العربية لهذا الكتاب المهم: «لقد توجهت في هذا الكتاب إلى الجمهور الألماني وبرهنت له أن الانشغال الدائم بمسائل معاداة السامية، والادعاء السخيف والزائف أن نقد السياسة الإسرائيلية هو عداءٌ للسامية، قضايا تجسد هستيريا خالصة، بيد أنها تستخدم من جانب اللوبي الإسرائيلي في الخطاب في سياق الصراع في الشرق الأوسط. وبالفعل، فإن الـ«هاسبارا» الإسرائيلية (الاسم الذي يُطلق على وزارة الدعاية هناك) تستخدم هذا السلاح منذ أن أجاب سفير إسرائيلي في واشنطن عن سؤال أحد الصحفيين الإسرائيليين عن أعظم ما أنجزه لإسرائيل فأجاب: «يتمثل أعظم إنجاز في أني تمكنت من إقناع الإدارة الأمريكية بأن معاداة الصهيونية هي نفسها معاداة السامية». وأضيف أن الأمر نفسه مثلما تُقنع أي إدارة في هذا العالم بأن معاداة النازية هي نفسها معاداة الشعب الألماني.

* صنع معاداة السامية أو تحريم نقد إسرائيل. أبراهام ملتسر. ترجمة سمية خضر. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وخالص الشكر للصديق أحمد الفيتوري الذي زودني بنسخة إلكترونية من الكتاب.