Atwasat

صاغة العقول

محمد عقيلة العمامي الإثنين 25 ديسمبر 2023, 01:48 مساء
محمد عقيلة العمامي

من قبل كنت قد كتبت، أكثر من مرة، عن أستاذي الدكتور محمد علي العريان الذي كان من ضمن عدد من دكاترة أفاضل بالجامعة الليبية طُلب منهم مغادرة ليبيا من بعد قيام ثورة سبتمبر 1969 مباشرة، وكثيرا ما بيّنت كيفية تأثيره عليّ، وكذلك على عدد من زملائي، وكيف كان يقدم لنا محاضراته بطرق عجيبة متعددة، منتقيا مواضيع لمحاضراته، كانت تبدو لنا غريبة. منذ أيام وجدت مقالة كتبها الكاتب الروائي الفرنسي (أندريه موروا) الذي عاش ما بين سنة (1885-1967)، وقد اشتهر بكتابته لسير عددٍ من الأدباء والفلاسفةـ منهم أستاذه الفرنسي (أميل شارتييه) وهو أيضا بالإضافة إلى كونه صحفيا وكاتبا وفيلسوفا فرنسيا، امتهن التدريس وعندما قرأت مقالة (موروا) التي أشرت إليها أحسست وكأنه يتحدث عن الدكتور العريان.

يقول أن أستاذه ( شارتييه) علاوة على ما وصفته (صائغٌ) للعقول، وذلك وصف لكاتب لا أعرفه، ولم أسمع به من قبل، ولو رجعنا إلى معاجم اللغة لوجدنا أنها صفة لصناع الذهب، وأيضا من يحسنون توظيف واستخدام الكلام!

أسلوب (أميل شاتييه) - في نظري- كأسلوب- العريان فكلاهما يبتدع فكرة لموضوع ما ويطلب من تلاميذه مناقشتها والكتابة عنها وأحيانا يكون الموضوع مضحكا، فهذا (شاتييه) يطلب من تلاميذه أن يكتبوا موضوعا عن (محبرة)، وأذكر أن العريان جاء إلينا بجوزة هند، وهي التي نسميها في ليبيا (لوزة قرد) وطلب منا أن نكتب موضوعا عنها! وأمضينا ساعات نناقش ونكتب مواضيع إنسانية ليبية عن هذه الثمرة الآسيوية!

عبارة، لأفلاطون يقول فيها: «على المرء أن يبحث عن الحقيقة بكل ما في وسعه..» ظلت كثيرا محورا لمواضيع متنوعة منها، ما هو غريب وعجيب بالفعل ولكن في النهاية كانت مواضيع أوصلتنا مبكرا للكثير من الحقائق، وظل يؤكد لنا «إن ما يناله المرء من العلم بسهولة ينساه بسهولة»، وكثيرا ما دلل على ما يقوله لنا من آراء وحكم بأمثلة تؤكد عمق وحقيقة هذا الرأي، فمثلا دلل على عملية التعلم، التي ما زلت أذكر تفسيرها، إذ قال : «إنهم في الجيش، أي جيش، لا يحاضرون عن البندقية، بل يفرضون على الجندي أن يفكك أجزاءها ويعيد تركيبها مرددا العبارات نفسها بأسماء قطعها.. فبعد تكرار هذا العمل يعرف الجندي ما هي البندقية ولا يمكن أبدا نسيانه لأجزائها وهكذا تلتصق النظريات والأقوال والحكم وتعلم العُلم والمعرفة.

ولعل ما تعلمته من الدكتور محمد علي العريان، وتأكد لي فيما بعد من أقرب أصدقائي الكُتاب وهو الراحل خليفة الفاخري، إذ سألته ذات مرة أنني أريد أن أكون كاتبا، فنصحني أن أختار ثلاث روايات لثلاثة كُتاب، وأنسخها بخط يدي على التوالي، ثم أعيد ذلك مرة أخرى! مؤكدا لي على: «أن تعلم الكتابة، يُكتسب بالنسخ، ثم بالتقليد، تماما كما يتعلم الموسيقي، وكما يتعلم الجندي بتفكيك البندقية..»، مكررا أكثر من مرة: «أن الأغبياء، والجهلة هم الذين يرون أنهم سوف يصبحون مبتكرين، أو بمعنى أدق مؤلفين إن هم أهملوا ما قام به الذين سبقوهم، فنجاح الكاتب في قدرته على تحسين وإثراء الأقوال السائدة التي قيلت حتى قبل مولده..»، وتحققت فيما بعد من ذلك فاللغة كائن حي يولد ويتطور، وينجب قبل أن يموت!

الكاتب يحتاج إلى التنقيب والبحث فيما خلفه الكُتاب والمفكرون الكبار، الذين تركوا للبشرية إرثا ظلت قيمته المعرفية نبراسا لمن يريد أن يتعلم. عليهم فقط أن يبحثوا ويطلعوا وسوف يتعلمون.
الخلاصة أنني كنت أعتقد أن أستاذي الدكتور محمد على العريان يحمل فكر الفيلسوف الأميركي (وليم جيمس) الذي حضر عنه الكثير من المواضيع، واكتشفت الآن، بعد قرابة نصف قرن أنه يحمل أيضا فكر (أميل شارتييه) الذي قال عنه (أندريه موروا): «كان شارتييه مدرسا وفيلسوفا وكاتبا، وكان علاوة على كل شيء صائغا للعقول».