Atwasat

سياسيون ومثقفون في غاية التأريخ!

سالم الهنداوي الخميس 21 ديسمبر 2023, 05:12 مساء
سالم الهنداوي

.. إلى وقتٍ قريب كان موت "الزعيم" مؤلماً ومؤثِّراً في حياة المجتمعات التي كانت "تحلف" برأسه وتبارك أفعاله وتتبارك بكلماته وحتى بهمساته، ملكاً كان أو أميراً أو رئيساً أو قائداً فذّاً مثل "كاسترو" في كوبا، أو زعيماً مُطاعاً مثل "كيم إيل سونغ" الأب، و"كيم كونغ أون" الابن في كوريا الشمالية.. غير أن شعوباً أخرى كثيرة بكت بمرارة موت زعمائها وقادتها الخالدين، مثل "المهاتما غاندي" محرِّر الهند الذي اغتيل في نيودلهي العام 1948، و"مارتن لوثر كنغ" محرِّر الزنوج الذي اغتيل في ممفيس- تينيسي العام 1968، و"تشي جيفارا" الثائر الكوبي- الأرجنتيني الذي اغتيل في بوليفيا العام 1967، و"هوشي منّه" محرِّر فيتنام الذي توفي في هانوي العام 1969، و"نيلسون مانديلا" محرِّر جنوب أفريقيا الذي توفي في جوهانسبرغ العام 2013.. وهناك زعامات عالمية كثيرة كانت لها بصماتها التاريخية في حياة الشعوب، ومثالاً: "جورج واشنطن" في أمريكا، و"شارل ديغول" في فرنسا، و"ونستون تشرشل" في بريطانيا، و"ليونيد بريجنيف" الزعيم السوفياتي السابق، والصيني العتيد "ماوتسي تونغ".

يحفظ لنا التاريخ أسماء الكثيرين من الدكتاتوريين والطغاة في العالم قبل وبعد الحربيْن العالميتيْن، وقد نراهم في معرض التماثيل الخالدة يقفون في التاريخ بما صنعوا واختلفوا، فنرى "هتلر" في تاريخ النازية، وألمانيا بلاد "بريخت ونيتشه وغوته وشوبنهاور"، ونرى "موسيليني" في تاريخ الفاشية، وإيطاليا بلاد "البرتو مورافيا ولومبيدوزا وبينيدتو كروتشه وماريو سولداتي"، ونرى "فرانكو" في تاريخ الدكتاتورية، وإسبانيا بلاد "أنطونيو ماتشادو وفيديريكو غارثيا لوركا".. وأسماء أخرى مثل "بينوشيه" التشيلي، بلاد "بابلو نيرودا"، و"تشاوشيسكو" الروماني، بلاد "ماركوس أورليوس"، والطاغية "نيرون" الذي أحرق روما العظيمة بلاد "ليوناردو دا فينشي ومايكل آنجلو" وهي حاضرة "الموناليزا وصوفيا لورين".

وبرزت في كُل العصور زعامات تاريخية كان لها التأثير الوجداني في حياة شعوبهم وإن اختلفوا حولها بميولاتهم الأيديولوجبة والوطنية، لكنّهم اصطفّوا في التاريخ باعتبارهم أبناء تلك المراحل التاريخية النضالية في مستوياتها الإقليمية والعالمية، فنقرأ لهم وعنهم باعتبارهم جزءاً من المعرفة بجوانبها التاريخية، لكنّنا اليوم نراهُم مُجرّد "أسماء" وقد ابتعد تأثيرهم في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وهنا نتساءل عن الأفعال التي تركها مفكّرون وزعماء وقادة ثورات عالمية مثل: "لينين وماركس وستالين" في روسيا، في وقت نستذكر الأثر الأدبي الخلّاق في قصص وروايات أدباء روسيا العِظام مثل: "تشيخوف ودوستويفسكي وتولستوي وبوشكين"، وهي الأعمال الخالدة في تاريخ الامبراطورية الروسية التي عاش القيصر ظلامها بكوابيس الراهب "راسبوتين".. وفي فرنسا كان "نابليون" بطل الثورة الفرنسية ومؤسِّس حكومة القناصل والإمبراطورية الفرنسية الأولى، ومن أشهر مفكّريها وأدبائها بل وروّادها وملهميها: "فولتير، وجان جاك روسو، ومونتسكيو، ودنيس ديدرو".. لكن "فيكتور هيجو" صانع رواية "البؤساء" طغى على تلك الرموز الثقافية ببطله "جان فالجان" وهي الرواية العالمية الأشهر في القرن التاسع عشر، وفيها يصف وينتقد الظلم الاجتماعي في فرنسا بين سقوط "نابليون" في العام 1815 والثورة الفاشلة ضد الملك "لويس فيليب" في العام 1832.

في الثورات العربية لم يكن الأدب على وفاق وتصالح مع قادتها العسكريين سوى من بعض كُتّاب صحفيين واكبوها وكانوا ضمن جوقاتها الإعلامية، وقد كان "حسنين هيكل" المثال الأبرز في عهد عبد الناصر الذي استطاع بوزارة إعلامه تجييش وكسب عدد كبير من المطربين وشُعراء الأغنية وخسارة الأدباء، وظهر ذلك جليّاً أثناء العدوان الثلاثي على مصر وحرب 1967.. فغنّت له أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم، وكتب له صلاح جاهين "الرباعيات" فيما لم يكتب له أحمد فؤاد نجم ولا عبد الرحمن الأبنودي سوى الرثاء البليغ عند موته رغم ما نالاه في عهده من سجن وتعذيب.. وقد ظهر في مصر تعريف "مثقّفو السُّلطة" الذين ذهبوا معها بعيداً، وبقي مثقّفو الوطن الذين عاشوا معاناته يكتبون للإنسان والوطن برؤيا الفكر والتنوير والذات الإبداعية شعراً وقصّة ورواية، وقد عاشوا بذلك أحراراً وحافظوا على قيمة وجودهم الثقافي في مجتمعهم، فلم يهادنوا النظام ولم يمدحوا السُّلطة ولم يطبّلوا لحاكم أو زعيم، ولعلّ المثال العربي كان دائماً في مصر العروبة التي انتقلت من الملكية بثورة هي من أكبر الثورات العربية ذات الأثر الكبير في تغيير العديد من الأنظمة الملكية خلال عقديّ الخمسينيّات والستينيّات، مثل العراق وانقلاب "عبد الكريم قاسم" على "المملكة العراقية الهاشمية" في العام 1956، وفي اليمن وانقلاب "عبد الله السلال" على "المملكة المتوكلية" في العام 1962، وفي ليبيا العام 1969 وانقلاب "معمر القذافي" على "المملكة الليبية".. وكان حينها بعض رموز الصحافة والإعلام سبّاقين إلى تمجيد هذه الانقلابات ومواكبة مسيراتها بالهتافات والأناشيد، بخلاف الأدباء الذين نأوا عن التهريج بانتمائهم إلى روح الوطن من قبل ومن بعد، وقد اختلفوا كثيراً مع صُنّاع التغيير في هذه البلدان.. وفي التاريخ غادر السياسيّون وجاء غيرهم، لكنّ ظلَّ الأدباء يعيشون مع الشعب في الشوارع ويجلسون في مقاهييه الشعبية، وظلّت مواقفهم التاريخية واضحة وإن دفعوا ثمنها السجن والتعذيب والتهميش، كما حدث مع الكثيرين من أدباء هذه البلدان، مثل نجيب سرور وأمل دنقل وعفيفي مطر وفؤاد نجم في مصر، وعبد الله البردّوني في اليمن، ومظفر النوّاب في العراق، وخالد خليفة في سوريا، ومحمد الشلطامي في ليبيا، والصغيّر أولاد أحمد في تونس.. لتتّسع دائرة المعارضة الفكرية وتكبر في مواقف معظم أدباء العرب القدامي والمحدثين.

في عالمنا العربي يذكر التاريخ أسماء من عبروا وأسماء من خُلِّدوا، ولعلَّ النضال والمقاومة العربية ضد الاحتلال والاستعمار كان من أهم عوامل بقائهم في ذاكرة التاريخ، ومنهم: "عزالدين القسّام" في فلسطين، و"عبد القادر الجزائري" في الجزائر، و"عزيز المصري" في مصر، و"أدهم خنجر" في لبنان، و"عمر المختار" في ليبيا، و"عبد الكريم الخطابي" في المغرب.. فيما لم يُهمل التاريخ الحديث زعامات وقادة عرب مختلفين مثل "ياسر عرفات" في تاريخ المقاومة الفلسطينية الذي انتهى نضاله بتوقيع اتفاقية "أوسلو" مع "العدو الصهيوني"، و"جمال عبدالناصر" الذي خسر حرب 67 وترك الإرث القومي للسادات الذي باعه في "كامب ديفيد" بثمن بخس.

فعلاً التاريخ "لا يرحم" كما يقول العرب، لكن تظل الأفعال دائماً أهم من النوايا، والعرب في زمن الخيانات لا مكان لهم مناسباً في التاريخ، والشعوب العربية بقدر عاطفتهم يعيشون ويتعايشون مع قادتهم ببرهان الحاضر دوماً، ويمجِّدون الحاكم في عهده حتى يسقط ويأتي غيره، فلم يذكر التاريخ العربي أن شعباً عربياً واحداً دافع عن السُّلطة الحاكمة ومنع سقوطها.