Atwasat

حكايات بيروت (1)

سالم الكبتي الأربعاء 20 ديسمبر 2023, 03:40 مساء
سالم الكبتي

وصلتها ليلا. زحام في المطار. أكداس من البشر الواصلين من كل مكان. إنهم يغالبون في هذا الوقت التعب والنعاس والتثاؤب وينتظرون إنهاء الإجراءات.
انتهت بسلام. خرجت من الصالة. الآلاف من المنتظرون يملأهم الشوق. انتصف الليل. وبدا موحشا. الشوارع مظلمة. مصابيح أعمدة الكهرباء مطفأة والأضواء تلوح من بعيد في الشرفات والبيوت. أول انطباع عن الحسناء بيروت. العازارية. وسط البلد. ساحة رياض الصلح. الأسواق القديمة. المساجد والكنائس الطرقات والدروب كلها معتمة مثل ظلام الكهوف القصية. والبحر من بعيد أسمع أمواجه تتكسر. مصابيح الشوارع مطفأة على الدوام في الليل. حين تغيب الدولة يكون الظلام. ويحس الإنسان بالوحشة. ليس ثمة أنس أو أنيس. هذه بيروت التي تغيرت في رأي العالم كله. لم تكن مثل زمان. زمان مضى. الحروب والصراعات والتقلبات ثم حادث المرفأ. الحزن والوجوه المجدورة. والظلام. زمان مضى يا بيروت وحل الظلام في المنطقة كلها. تعتم بيروت فيعم الظلام والخوف كل الأماكن.

الثانية:

هذا سمير عطالله الصديق الجميل. اللقاء في ديوان بيروت بالأشرفية. حضر من البرزة في الجبل حيث يقيم لنلتقي. دائما سمير في الاعالي دعاني بكل ترحاب وصديقنا المشترك محمود شمام. هذا سمير الليبي اللبناني أقبل يتوكأ على عكازه ويلوح شابا رغم مرور الأعوام. الذاكرة والروح المتوهجة تتقدان. آخر عمالقة الصحافة العربية الآن. يوالي عموده اليومي بهمة ونشاط في الشرق الأوسط في لندن ومقاله الأسبوعي كل أربعاء في نهار بيروت التي عززت انطلاقته منذ البداية ولا ينسى أفضال غسان تويني.. الأستاذ المهيب. أخلاقيات المهنة والصحافة والحبر وهدير الآلات قرب الفجر والناس نيام والأزقة هادئة.. ثم تبدأ الحياة مع السطور ونزف الحروف.

وحكايات عن بنغازي التي في باله دائما لم تغادره قط. كان هنا من سبتمبر 1967 الى مارس 1968. نصف عام لدينا قضاها. كتب أجمل المقالات بالعربية في الحقيقة وبالإنجليزية في رصيفتها ذي ليبيان تايمز التي ادارها مع الكبير رشاد الهوني. بنغازي في قلبه وخاطره وشعور بالحزن يلفه بعض الأوقات. يظل في اليرزه فوق الجبل لا يخرج كثيرا. يعتكف قارئا ومتابعا وملاحظا ويعكف على كتابة مذكراته التي ستصدر قريبا في بيروت. ستكون أيامه في بنغازي ذات حيز مهم في هذه المذكرات وعبر تجربته وأيامه وذكرياته.

بابه الأسبوعي في الحقيقة كان اسمه (كلمات على الماء) وعندما غادر بنغازي والحقيقة في مارس واصل عبد الحميد البكوش وكان رئيسا للوزراء الكتابة في الباب الذي اختار عنوانه سمير. البكوش الشاعر والمحامي والرئيس والمتنور كتب باسمه المستعار الذي نظم به أغانيه وأشعاره (أبوالوليد) كان على علاقة رائعة بالحقيقة ورشاد وطاقمها، ومن ثم صارت علاقة المواطن بالمسؤول الكاتب والمواطن القاريء فاجأته في هذا اللقاء ببعض أعداد الحقيقة التي تحوي مقالاته خلال العامين المذكورين. عدد منها يحوي حوارا مهما أجراه مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي زار بنغازي تلك الأيام وأحيا أمسية فيها ومثلها في طرابلس. ابتهج بذلك مثل طفل يعانق شيئا مفرحا. هذه الأعداد قطعة من سمير بعد هذا التاريخ الذي مضى. الجريدة اليوم جريدة وفي الغد تصبح تاريخا يعتمد عليه. تلك هي الصحافة ودورها. الحرية والتاريخ والإنسان. ورحلة الحروف والكلمات.

بيروت. بنغازي. وسمير.. والأيام. جزء من لوحة بنغازي. سمير طعم آخر وشيء آخر. متعه الله بالصحة والعافية. ساعات شكلت ذكريات جميلة معه مضت في بيروت في أعوام ماضيات. سمير سيبقى الأستاذ والصديق والفنان.
وصحافة الزمن الذي يصعب تكراره على الدوام.. من جديد.

الثالثة:

هذا بيتها فوق الرابية هناك. الضاحية بعد أنطلياس وقبل بكفيا عبر الجبل. فيروز البيت المتواضع الجميل عند التلة فوق الجبل المطل على أجمل بقاع بيروت الشمالية.. ومن بعيد البحر. هدوء وسكينة تعم البيت. والطريق خارجه يزدحم بالحركة والسيارات الصاعدة إلى الجبل أو الهابطة منه نحو أنطلياس.

ثم يخترق شارع الأخوين رحباني في الأسفل إلى طريق ضبيه. ولدا وعاشا في القرية. كانا في حرس البلدية ومن حياة الناس وتراثهم التقطوا الأصيل منه وصارا مع فيروز مدرسة فنية قمة في الروععة. جايبلي سلام وسني عن سني.. وغنيت مكة والقدس العتيقة. هذا بيتها المتواضع فوق التلة. عندما تنهض فيروز صباحا تسمع صوتها من شبابيك الجيران الناهض مع تنفس الصبح وطلوع الشمس والنهار. فيروز الصحو والنهار. العمر. السنون. العزلة في تواضع في البيت المتواضع عند التلة صورة للفنانة الإنسانة الصادقة. يتردد صدى الأغنيات والألحان والكلمات وينتشر في الأفق. أغانيها مثل الكتب.. مثل دواوين الشعر. تقرأ الأغنية بأذنيك لا تنصت فقط. فيروز تعبق المكان. هناك عند التلة.. أمام البيت صورة. تعذر اللقاء. بقيت الأصداء تتردد وترن في الأسماع. فيروز تعيش في الأعماق ولا تغادرها.

يا ريت أنت وأنا بذلك البيت هناك عند الرابية.. عند فيروز جارة القمر.