Atwasat

بحثا عن العمق

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 ديسمبر 2023, 02:26 مساء
محمد عقيلة العمامي

هذا العنوان لموضوع تناوله الكاتب الألماني المتميز (باتريك زوسكند) الذي نجحت، فانتشرت، روايته (العطر) المتقنة حد الدهشة، والتي قرأتها منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولذلك عندما وجدت له في معرض بيروت الدولي للكتاب سنة 2007 كتيبا صغيرا يحوي (ثلاث حكايات وملاحظة تأملية) وهو ما اتخذه عنوانا له، اشتريته ولكنني لم أقرأ منه شيئا، إلاّ الليلة البارحة. قرأت منه الحكاية الأولى فقط!

أعجبتني، وظللت أفكر كيف تناول باقتدار نقدا رهيبا للنقد! إذ جعل منه موضوعا مزعجا، لا ننتبه كثيرا إلى مغبته، وتأثيره البالغ عند الفنانين، خصوصا مرهفي الإحساس! وكم هي موحشة نتائجه عندما يتناوله نُقاد غير مؤهلين له، فيبتدعون جملا، وأحيانا مجرد كلمة تسلطت عليهم، يتباهون بها، فيتسلطون بها على مبدع الموضوع، يوظف قراءته حول موضوع ما، ويستثمرها لموضوع آخر. وأنا أعترف أنني كثيرا ما تأخذني كلمة، أو جملة، تتسلط عليَّ فأكررها، وفي الغالب أنتبه إليها، فأصحح هذا التكرار، أما إن لم أنتبه إليها، فإنني كثيرا ما ألوم نفسي على توظيفها.

الحكاية أشرت التي إليها خلاصتها أن ناقدا، راغبا في تشجيع فنانة واعدة، قال إنها فتاة من (شتوتغارت) ترسم لوحات جميلة، في أول معرض لها: "إن ما تقومين به عمل موهوب ولافت للنظر، لكن به القليل جدا من العمق".

لم تفهم الفتاة ما يعنيه الناقد، وسريعا ما نسيت ملاحظته، ولكن بعد أيام قرأت للناقد نفسه مقالا في جريدة المدينة، تحدث فيه عن فنها يقول فيه إنها: "تملك الكثير من الموهبة، ولوحاتها تثير الإعجاب، ولكن للأسف تفتقر إلى العمق".

فتأملت لوحاتها، ثم غسلت فرشاتها، وخرجت لتتمشى. في المساء كانت مدعوة لحفل، وهناك انتبهت إلى أن أغلب الحضور يكررون رأي الناقد، إذ يبدو أنهم قرأوا نقده!

ظلت لأسابيع تحاول أن ترسم ولكنها لم تستطع، اتجهت إلى كتب الفن والنقد، تدقق في أعمال الفنانين. ثم حاولت أن ترسم ولكنها لم تستطع، سيطر عليها تساؤل واحد: "لماذا ليس لدي عمق؟". وتكررت محاولات رسمها، ولازمها التساؤل نفسه: "لماذا ليس لدي عمق؟".

وفي معرض لوحات عالمية أقيمت للتلاميذ، وقفت وتأملت لوحة من أعمال (ليوناردو دافنشي)، ثم سألت أستاذ الفن أن يشرح لها العمق في هذه اللوحة؟. فسخر منها الأستاذ وضحك التلاميذ وعادت إلى بيتها حزينة، وبتواصل الأيام تدهورت حالتها، واكتأبت وماتت! فكتب الناقد ذاته: ".. تهزنا من الأعماق أن نرى موهبة شابة، لا تملك من القوة ما يكفيها لتثبت نفسها في المشهد الفني.. مبديا تعاطفه معها، مشيرا إلى أن أعمالها الأولى الظاهرية تنطق بذلك التمزق المرعب، ألا يُقرأ من تقنياتها؟ صاحبة الرسالة، ذلك التمزق الموجع الذي يحفر الذات حلزونيا، غير المجدي بشكل واضح، الذي يبديه المخلوق على ذاته... ".

ما إن انتهيت من قراءة ما كتبه الناقد حتى تذكرت فنانين أعرفهم شخصيا، رحلوا عنا مبكرا، ولم يكن في سلوكهم ما يشي بأنهم سيؤذون أنفسهم، وأن لوحاتهم ممتلئة ببهجة ألوان ورموز ومعان، ولكن لا أحد يستطيع أن يقول عنهم، ناقد أو غيره، أنه ليس في لوحاتهم عمق، حتى من أولئك ذوي الرؤية السطحية، فحذار أن تفكر أنه ليس بلوحة، أي لوحة! أي عمق، حذار أن تكون غواصا رديئا، لا يرى إلاّ الأسماك والقيعان القبيحة، فليس هناك قيعان لا تتراقص مع تموج تياراتها أزهار وألون وأسماك ملونة رشيقة، تماما مثلما ليس هناك تلوين بلا معان، لوحة الصرخة، أحد أكثر الأعمال الفنية كآبة، وأكثرها شهرة، وهي تلك التي رسمها الفنان التعبيري النرويجي (إدفارت مونك) فليس هناك فنان تشكيلي بلا عمق، على الإطلاق.