Atwasat

الصوت الليبي

سالم الكبتي الأربعاء 13 ديسمبر 2023, 02:25 مساء
سالم الكبتي

في ليبيا.. كان هناك دائما عالم من الأصوات. يعلو. ينخفض يرتطم بالجدران. ارتدادات لها رجع الصدى بقوة. يعيش ويبقى وسط العالم مثل غيره من أصوات متنوعة. كانت ليبيا من هذا العالم الذي تملؤه تلك الأصوات ولا تتوقف. الصوت الليبي في الغالب لم يكن هامسا أو خافتا. كان في معظمه عاليا على الدوام. أحيانا يصاب بالبحة. أحيانا تناله شروخ. أحيانا تعطبه جروح، لكنه يظل صوتا يرتفع ويعلو مع الزمن.. مع الوقت. في أي يوم. في أي لحظة.

كان هناك عالم من الأصوات تعبر عن القلق. عن الخوف. عن حالات الصدام والمعارك. عن الفخر. عن الحزن. عن البهجة. عن المشاعر والأحاسيس. عن كل شئ. الصوت الليبي نسيج وحده ويبدو مثل فلسفة في أحيان أخرى.

الصوت الليبي مثل غيره من الأصوات في العالم، لكنه يظل متميزا من بينها. تعرفه وتصل إليه بسهولة. إنه معروف تماما. يلفت الانتباه أو التذوق مثل اختلاف طهو الطعام بين النساء.

بدأ (الصوت الليبي) في التشكل منذ حقب بعيدة بعد أن ظل (أبكم) لا يجرؤ على الكلام. كان الصوت لا ينطق لكنه اتضح ملامسة بالأيدي والأصابع في اللوحات والرسومات في الجبال البعيدة والصخور الناتئة وسط الصحراء وفي أهرامات متخندوش والإشارات بين إنسان وآخر وسط الجماعات.

تلك الأيام كان الصخر في ذرى الجبال يكاد ينطق ويتكلم. ظل أصلا يحوي أثرا سيخلده الدهر. الرسومات كانت صوتا دون أن تنطق. كانت معانيَ. كانت مفاهيم عن الحياة وفلسفة طبيعة الأشياء. الرسومات الليبية القديمة المنحوتة في الصخر الأسود كانت لغة جامدة. صوتا يشير ويوميء إلى شيء ما.. شيء بعيد في نسغ الحياة وتلافيفها. وبين جنبات الصخور تصفر الريح دون أن تزيل الرسوم واللوحات. ظلت تصفر على نحو مخيف في الليالي عبر تلك التهاويم والتجاويف والقمم المسننة في الأعالي. وكان يقال أن الجن يسكن هناك في المغاور والأحقاف ويهمد في النهار.

وكان له صوته الليبي القديم في الليل. الرقص والألحان والغناء.. ذلك صوت الجن الليبي في تلك الليالي سواء ظهر القمر أم لم يظهر. الجن الليبي يختفي في الكاف الموحش ولا يرومه في النهار. الجن الليبي حالة خاصة. يغني ويرقص في الليل ويتجسد أحيانا في الغزلان والوعول ومجموعات النعام وبقر الوحش والظباء. الغزال في مراحل لاحقة سماه الليبيون (غلم الجان). نسجت حوله أساطير وقصص غريبة وكثيرة وارتبط صيده بتلك المعاني.

ثم مع الزمن.. مع الحركة والتطور الذي يقهر الثبات تحول وتشكل إلى لوحات ناطقة ومعبرة.. النطق بدأ يظهر شعرا أو كلاما في هدرزة. أو مهاجاة أو أغنية أو صراخا أو صيحات في ساحات القتال أو في صوت المقرونة المنبعثة من قرني ثور.. تباريح الجوى والعشق ولهيب النار والشجن. أو همهمة عبر حركة الرحى. عبر أنين الجبادة. انطلق وسط أغاني العلم وتوجعات الرعاة وحنينهم. كانت كلها معاني للحزن والمعاناة والألم اليومي نتيجة قهر أو ظلم أو ذل.

ثم في صوت قنانه في الزيغن عبر فضاء الصحراء وبعدها عند السرايا على شاطيء البحر حيث يوسف القرمانللي وأولاده وحاشيته. وفي صوت عبد المطلب الجماعي.. ارحم بوي خلاني هواوي أو صوت محمد بن زيدان.. أحوال حايله أو بورنانه.. يا درب قارة وافي.. أو الجنجان.. يا وادي يدير مناقير. أو صوت فاطمة عثمان في مواجهة حبال المشنقة لرجال هون .. خرابين ياوطن ما فيك والي. وفي أصوات المنافي من الفضيل الشلماني وفي المعتقلات.. ما بي مرض لرجب بوحويش وغيره من أصوات في أيام الوحشة والعذابات. أصحاب الصوت لم يكن صوتهم مجرد رجع لصدى.

بل كان صوتا حقيقيا ومؤثرا وسط البراح يعبر الشرور والزمن ويكتب التاريخ ويدون اللحظة بكل تفاصيلها. صار الصوت قويا وجبارا. تأخرت الكلمة المكتوبة. تقدم النطق والصوت شفاهة بالشعر والشعور والإحساس. ظل الشعر هنا صوتا للجميع هنا وهناك دون فرق. دون أية التباسات. الكل يفهم ما يقال. الكل ينسجم مع النطق الذي ظل بطريقة أخرى طبيعة للكلمة وصورة حية لها. الكلمة أقوى والنطق كذلك. ودائما النطق يسعد إن لم يسعد الوقت والحال منذ زمن المتنبي وما قبله وما بعده أيضا.

لم يكن الصوت الليبي خلال التاريخ جامدا أو باردا أو ساكنا. كان متحركا يهدر. كان يخترق الحواجز ويواجه السلطة بالتمرد وصيحات الغضب رفضا للعسف والضرائب الجائرة زمن الترك وقهر الاحتلال منذ وصول الطليان إلى شواطئنا.

التمرد سمة ليبية قديمة عبر عنها الصوت إذا غاب الفعل أو تأخر. لم يستطع أي كاتم للصوت أن يكتمه أو يحبسه أو يخنقه. واصل انطلاقه رغم القيود والتعويق والخنق.

الصوت الليبي في التاريخ ظل يتنوع وينطق ويتكلم عبر الزمن الليبي في الخطب النارية والعادية والقصائد والمظاهرات والمسيرات والهتافات. ولدى المقرئين والحفاظ والمذيعين والمطربين.. وغيرهم. أصوات ليبية لليبيا. تطرق الأسماع. وتوقظ النوام. الصوت الليبي يهدر مثل النهر.. ولا يتوقف. لم يكن ظاهرة صوتية فاقعة. ومثل صوت الجن أخذ يعبر الشرور والزمن ويكتب تاريخه بأصواته المتنوعة الاتجاهات والأطراف. الصوت الليبي حالة خاصة على الدوام.