Atwasat

شارل فيرو وليبيا

منصور بوشناف السبت 09 ديسمبر 2023, 11:42 مساء
منصور بوشناف

في كتابه الصادر بالفرنسية عام 1977م تحت عنوان «شارل فيرو وليبيا» يقدم لنا الباحث والمترجم الليبي الدكتور محمد الوافي صورة لأحد قناصل فرنسا في ليبيا وربما أهمهم «شارل فيرو» حيث يرسم صورة شخصية له عبر تكوينه الاجتماعي والثقافي، كما يرسم بانوراما لتلك الحقبة من تاريخ أوروبا والمنطقة العربية الواقعة تحت الحكم العثماني، ثم صورة لليبيا آخر مناطق الإمبراطورية العثمانية المنهارة أو «الرجل المريض» كما كانت تسمى أثناء وصول شارل فيرو إلى طرابلس كقنصل لبلاده.

علاقة «شارل فيرو» بليبيا بدأت، كما يشير محمد الوافي، قبل قدومه كقنصل لبلاده، فقد وصل إلى طرابلس ثم بنغازي من الجزائر، حيث كان يعمل بالإدارة الفرنسية هناك في مهمة استخباراتية للتعرف ودراسة العلاقة بين الحركة السنوسية وحركة المقاومة الجزائرية ويرسم «فيرو» كما يشير «الوافي» صورة مبدئية عن ليبيا وعن الحكم العثماني فيها وعن الحركة السنوسية وأثرها في برقة وضعف هذا الأثر في طرابلس كما يقول «فيرو» في تقاريره عن تلك الزيارة.

«شارل فيرو» تكون كما يقول «الوافي» كباحث في اللغة والتاريخ أثناء عمله بالإدارة الفرنسية بالجزائر، فلم يكمل «فيرو» تعليمه الأكاديمي، بل تعين كموظف صغير بالجزائر في سن مبكرة، ولكنه استطاع أن يتعلم العربية ويتقنها سريعًا ويدرس ويتعلم لغة البربر ثم يتعمق في دراسة عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم ليدرس بعد ذلك حركات التجديد الإسلامي في تلك الفترة ومن أهمها السنوسية، إلى جانب قراءته ومتابعته لإنتاج محمد عبده وجمال الدين الأفغاني كمجددين في الفكر الإسلامي.

«شارل فيرو» كما يؤكد «الوافي» كان رجل استعمار متعصبًا يرى في شعوب هذه المنطقة بشرًا متخلفين ولا حق لهم في امتلاك وإدارة هذه الجغرافيا ومواردها واستعمارهم واجب حضاري على أوروبا إنجازه، ولذا رأى «فيرو» أن حركات التجديد الإسلامية التي ظهرت في المنطقة مثلت خطرًا حقيقيًا على المشروع الاستعماري الأوروبي لأنها، وكما رآها، ربما تشكل مشروع نهضة خاصًا ومستقلًا ومقاومًا للمشروع الاستعماري الأوروبي وبديلًا للإمبراطورية العثمانية التي كانت تنهار.

كان كتاب «الحوليات الطرابلسية» أو «الليبية»، كما ترجمه الوافي، المنجز الأهم بالنسبة لنا كليبيين أولًا وبالنسبة لأي باحث في التاريخ الليبي، فقد قدم لنا الكتاب صورة تفصيلية عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لتلك الحقبة من تاريخنا.

صورة عن حكم العثمانيين وعن حياة الليبيين وما يعانونه من فقر وأمراض وتخلف وصورة عن الوجود الأوروبي في ليبيا وتأثيره وعن صراع قناصلة تلك الدول فيما بينهم على ليبيا، إنه رصد للانهيار ومحاولة النهوض اليائسة من قبل الأتراك وثورات الليبيين.

«شارل فيرو»، كما يقول في إحدى رسائله، لم يهتم بتاريخ ليبيا الفينيقي أو الروماني، بل انطلق في تاريخه منذ الفتح العربي، كما يقول، وذلك يوضح استراتيجية الاستعمار الأوروبي وعدوه المباشر في تلك المرحلة وهو «العربية والإسلام». فقد عرف أنه لن يواجه في خطته بالإرث الفينيقي ولا الروماني، بل العربي الإسلامي.

اعتمد شارل فيرو في كتابه الحوليات كما يؤكد «محمد الوافي» في فصل من كتابه هذا على مصادر ليبية أهمها «التذكار» لابن غلبون وكتاب المنهل العذب لابن الأنصاري رغم عدم ذكر شارل فيرو لهذين المصدرين في مؤلفه.

«شارل فيرو» الذي بنى قبره على شكل قبر وليّ مغربيّ بقبة وأقواس إسلامية مغربية ليسكنه جثمانه بعد موته وأتقن العربية والبربرية وعرف حركات التجديد في الإسلام في حياته وأمضى تلك الحياة بحثًا عن قبر يدفن فيه ميراث التجديد العربي والبربري «الأمازيغي» لأنه كان بالنسبة له الخطر الأهم على مشروع الاستعمار الأوروبي.

شارل فيرو مثل، حسب ما نقرأ في كتاب محمد الوافي «شارل فيرو وليبيا» مرحلة أخرى من الاستشراق هي مرحلة معركة الاستعمار المباشرة ضد قوى المقاومة للحفاظ على الأرض واللغة والدين بدراسة آلياتها وطرق تفكيرها ووسائل تجديدها لتفريغها من كل تلك العناصر ومصادرة ما تملك من أرض وموارد.