Atwasat

قباني ودرويش.. عندما يصبح الشاعر نجماً

إبراهيم حميدان الخميس 07 ديسمبر 2023, 02:10 مساء
إبراهيم حميدان

وأنا أستمع إلى الباحثة والكاتبة الأستاذة أسماء الأسطى بدار حسن الفقيه حسن للفنون بالمدينة القديمة طرابلس وهي تلقي محاضرتها مساء الثلاثاء من الأسبوع الماضي التي كانت بعنوان (مجلات الطفل الليبي في نصف قرن) عادت بي الذاكرة إلى سنوات الطفولة، حين كان والدي رحمه الله، يجلب لي، وبشكل أسبوعي منتظم، الجديد من إصدارات مجلات الأطفال المصورة المصرية واللبنانية، وما كانت تحمله لي من بهجة ومتعة وفائدة عظيمة. قراءاتي المتواصلة لسنوات لتلك المجلات المصورة هي التي جعلت من عادة القراءة تنغرس في قلبي وعقلي منذ ذلك الوقت حتى الآن.

عندما تجاوزت مرحلة الطفولة استهوتني كتابات "النجوم" في سماء الأدب والصحافة، فالنجومية في تلك الفترة لم تكن تقتصر على الفنانين واللاعبين الرياضيين فقط، بل كانت تشمل الصحفيين والكتاب أيضا، وهؤلاء كان لهم الفضل في جذبي لعالم الأدب والثقافة. أذكر من بينهم : الصادق النيهوم وأنيس منصور، ومصطفى محمود وغادة السمان، ونزار قباني الذي أحببت قصائده، ورحت أقلده في كتابة الأشعار. لكنني شغفت أيضا بقراءة المقالات النقدية التحليلية في الأدب والفكر التي كانت تنشرها الصحف والمجلات، وهي التي حصنتني من الوقوع في اسر كتابات هؤلاء النجوم، ومحاولة تقليد أسلوبهم في الكتابة، وغرست في عقلي بدايات التفكير النقدي، وتعلمت أنه لايكفي أن تعشق القراءة، بل لابد أن تتعلم كيف تُنمّي قدراتك النقدية التحليلية وأنت تقرأ، وتطورها على نحو مستمر.

عبد الحليم حافظ المطرب الذي كنت ولازلت من مُحبّي أغنياته هو الذي قادني إلى دواوين نزار قباني، عبر أغنيتيه "رسالة من تحت الماء" و"قارئة الفنجان" حين تغنى بهما في النصف الأول من السبعينيات. أما محمود درويش فقد أحببت قصائده في مرحلة لاحقة من خلال الصحف والمجلات، وتَعمّقت صلتي بقصائده عبر صوت مارسيل خليفة الذي راح يغني بعضا من قصائده، إضافة إلى أشعار أخرى فيما عرف يومها بظاهرة الأغنية البديلة. أذكر أنني في منتصف الثمانينيات سافرت إلى خارج ليبيا لأول مرة في حياتي، وكانت مدينة دمشق وجهتي، ومن بين ماعدتُ به من هناك من مواد ثقافية (كتبا ومجلات وأشرطة كاسيت)، شريط كاسيت يضم تسجيلا لقصيدة محمود درويش "مديح الظل العالي" حين ألقاها بصوته عام 83 في افتتاح المجلس الوطني الفلسطيني، ظللت أعيد الاستماع إليها بإعجاب لفترة طويلة، طريقة درويش في إلقاء الشعر كانت ومازالت لها جاذبية خاصة بالنسبة لي.

محمود درويش تحدث عن تجربة مارسيل خليفة في تلحين وغناء قصائده في الحوار الذي أجراه معه الصحفي المصري جمعة عبد الصبور في العدد الثاني من مجلة "الفصول الأربعة" مارس 1978 التي كان يصدرها اتحاد الأدباء والكتاب الليبيين. وكان درويش قد جاء إلى طرابلس وألقى أشعاره في مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب، لم أحضر تلك الأمسية، لعدم وجود إعلانات عنها، علاوة على أنني في تلك الفترة كنت مكتفيا بمتابعة تلك الأنشطة عبر الصحافة، ولم تعرف قدماي الطريق صوب الأنشطة والمؤسسات الثقافية والإعلامية.

نزار قباني ومحمود درويش يعتبران حالة استثنائية بين الشعراء العرب لما تميزا به من نجومية وشعبية كبيرة، فقد كان المسرح يمتليء بالجمهور في أمسياتهما الشعرية، وهذه حالة لم تكن تحدث إلا معهما. نزار قباني استطاع أن يصل إلى جمهور واسع من القراء بسبب سهولة شعره وبساطته، وأيضا جرأة قصائده في تناول العلاقة بين الرجل والمرأة ونقده للمجتمع الشرقي، إضافة إلى قصائده السياسية التي كان يهجو خلالها الأنظمة السياسية، والتي بدأت مع قصيدته خبز وحشيش وقمر عام 1955، وهوامش على دفتر النكسة عام 1967، وقد انتشرت دواوينه بشكل واسع بين الجمهور، وتغنى بقصائده أشهر المطربين والمطربات العرب، وكان تأثيره كبيرا في أبناء جيلي والأجيال اللاحقة. لكن هذا الانتشار الواسع جعله يُضحّي بالجوانب الفنية والجمالية في قصيدته، بسبب حرصه على الوصول إلى الجمهور الواسع، ما جعل شعره يقع في المباشرة والتنميط والتكرار خاصة في قصائده السياسية، وهناك العديد من النقاد الذين تعرضوا لهذه المسألة من بينهم الناقد الفلسطيني د. حبيب بولس الذي يوضح ذلك بقوله: "إن نزار سفح الكثير من جماليته على مذبح جماهيريته"(1) مشيرا إلى تلك المزالق الفنية التي وقع فيها مثل: الحماسة والرصف والوصفية والتقريرية، والتكرار" فكأن شعره نَسجٌ على نولٍ واحد. فمفرداته هي هي يلمّها ثم يُبعثرها، يجمعها ثم يُوزعّها حتى بات القاريء المثقف يعرف قاموس نزار المؤثّث بحفنة من مفردات تشير إلى الماضي وأخرى تؤشر إلى الحاضر، ولا يستوقفه منها شيء جديد فهي تتمحور وتتبوأرعلى عباءة، ومسبحة، وخنجر وحريم وجوارٍ ونفط، وخنجر وياسمين وتفتا ونهد ولوز وكل ما يتفتق عنها منظرا ولونا ورائحة وأبعادا وإيحاءات"(2). وعلى الرغم من أن هذه الدراسة تقتصر على شعر نزار السياسي، إلا أن بعض هذه المآخذ لوحظت أيضا على شعره الذي تمحور حول المرأة، بسبب الاستجابة إلى مطالب شريحة واسعة من الجمهور، يقول أدونيس عبر مقابلة معه منتقدا هذا النوع من القصائد : "إن القصائد التي يطلبها الجمهور ويُعجَب بها في شعر قباني ودرويش هي أضعف القصائد في تجربة كل منهما، القصائد الأهم لا يطلبها الجمهور"(3) .

لكن تجربة محمود درويش تختلف في تقديري عن تجربة نزار قباني في عدم رضوخ درويش لإرضاء رغبات الجمهور، وسعيه التجديدي على نحو متواصل، ففي المقابلة التي نشرتها مجلة الفصول الأربعة في العدد المشار إليه أعلاه يذكر الصحفي جمعة عبدالصبور أن درويش كان قد توقف عن قراءة قصيدته الشهيرة "سَجّل أنا عربي" في الأمسيات الشعرية، وأنه يرفض الاستجابة لطلبات الجمهور لقراءتها، لأنه يعتبرها قصيدة تجاوزها الزمن، فهو كتبها وهو داخل فلسطين وكان يشهرها في وجه المحتل الإسرائيلي، لكنه حين خرج من فلسطين ليقيم في القاهرة ثم بيروت ثم باريس لم يعد بحاجة إلى أن يقول مرة أخرى: "سَجّل أنا عربي" ، من ناحية أخرى أكد درويش في أكثر من مقابلة على أنه لايريد أن يبقى أسير بداياته، بل يسعى لتطوير أدواته الفنية ورؤيته الشعرية. ومن يتأمل تجربة هذا الشاعر في تحولاتها يلاحظ قدرته على التجدّد في أسلوبه، وتحقيق التجاوز ومغادرة كل مرحلة كان قد بلغها، وكأن قصيدته كانت تتمرن باستمرار على حساسيات جمالية جديدة، فهو يخشى الوقوع في التنميط والقولبة الشعرية، وماكان له أن يحقق النجاح في تحولاته هذه لولا استناده إلى موهبة شعرية فذة، علاوة على انصرافه إلى الكتابة الشعرية والإخلاص لها بما يوفر لها سبل التجدد والمغايرة، لكن هذا الانصراف إلى الكتابة لم يكن يعني كما يقول شوقي بزيع: " تقاطعا مع المفهوم التقليدي المتصل بالزهد، وهجر العالم الظاهري واعتزال الملذات، ولا التبتل كذلك، بل يعني إصغاءً بالغ الرهافة إلى معنى الأشياء، وحركة الحياة الخفية، وذهابا بالمحسوس إلى ما يتجاوز القشور نحو اللباب والمرئي نحو اللامرئي"(4).

صفة أخرى اتصف بها درويش ساهمت في إنجاح مساره التجديدي هي ملكة النقد الذاتي التي كان يمارسها تجاه تجربته الشعرية، لقد ساعدته هذه الملكة كما يقول منير العكش "على عدم الرضوخ للنجاح السهل ومتطلبات النجومية، وعجّلت بانتشاله من شاعر عادي يستلهم تجارب غيره أحيانا، ويعتمد على شيء من الخطابية والمباشرة أحيانا، إلى شاعر إنساني يتمتع برؤيا نادرة، ويعتمد تقنية معقدة دائمة التطور يعجن بها تلك الأمداء الكونية من العواطف الإنسانية ويصوغها في قصيدة كريستالية متألقة، ما جعل قصيدته تسمو بتفاصيل "المأساة المحلية" إلى آفاق إنسانية شاملة "(5).

ولذلك تبدو تجربة محمود درويش حالة استثناية في الشعر العربي المعاصر، لقد كان نجما ثقافيا لكنه كرس نجوميته في الارتقاء بالذائقة الشعرية للجمهور العربي، بدلا من تقديم ماهو خطابي ومكرور ومباشر سعيا لإرضاء الذائقة السائدة .
1-د حبيب بولس "شعر نزار قباني بين الفنية والجماهيرية" موقع سبيل الالكتروني
2-المصدر السابق
3-عبدالغني طاليس، "أدونيس يضرب جمهور قباني ودرويش: يحب الرديء من الشعر".صحيفة النهار اللبنانية، 2023/7/7
4-شوقي بزيع "هكذا تكلم محمود درويش ...دراسات في ذكرى رحيله" تحرير عبدالإله بلقزيز (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الأولى، نوفمبر2009) ص111
5-منير العكش، المصدر السابق، ص166-165