Atwasat

ريادة

منصور بوشناف الخميس 30 نوفمبر 2023, 09:46 مساء
منصور بوشناف

لكل مجتمع رواده ورائداته، ولسنا كليبيين بمختلفين عن المجتمعات البشرية. فلقد كان لنا بالتأكيد روادنا ورائداتنا وإن جهلنا وجودهم.

ولكن دعونا أولا نتفق على مفهوم الريادة وما عنته وتعنيه في مجتمعنا.

مفهوم الريادة ظل يعني بالنسبة لنا «من قدم جديدا أو طرق أبوابا جديدة أو استخدم أساليب جديدة في مجال أو في حقل من حقول ذلك المجال».

الريادة في الفنون، وخاصة التشكيلية، تمثلت بالنسبة لنا «حسب ما يقول الدارسون» في انتقال ممارسة الرسم من الجدران والنسيج والفخار وحتى زخارف الشبابيك والأبواب إلى سطح «اللوحة» ورقا أو قماشا «ويجمع الباحثون» على أن ذلك جرى في العهد العثماني الثاني، حيث دخلت اللوحة كعنصر جمالي إبداعي بعيدا عن الحرفة، فلقد ارتبط الرسم ولقرون طويلة من التاريخ الليبي بتزيّين المنتجات الحرفية وبالصناعات اليدوية كالنسيج والفخار والأرابيسك إلخ.

هذا الانفصال بين الرسم والتزيين للمنتج الذي كان يقوم به حرفيون من نقش وتلوين وحفر لأسطح تلك المنتجات وبين الرسم كعمل جمالي على سطح خاص ومنفصل هو اللوحة التي تعلق على الجدار ولا ترتبط بمنتج حرفي يستعمل لأغراض يومية كالفخار أو النسيج، كان النقلة الأولى لبداية الرسم الحديث كفن يمارسه الليبيون، وكان بالتأكيد من قام بتلك النقلة هو الرائد.

إذن يمكنني القول إن الانتقال من سطح لسطح آخر ومن وسائط لوسائط أخرى في الرسم، والأهم الانفصال الجمالي عن أغراض الاستعمال اليومي، كان هو الريادة.

ومع هذه النقلة تغيرت إلى جانب السطح أو الفضاء الوسائط وكذلك المواضيع فلم تعد مواضيع تزيين السلعة التي مارسها الحرفيون من الرجال والنساء هي المواضيع نفسها التي رسمها فنان اللوحة الجديدة، كل ذلك بدأ فعليا مع الاحتلال الإيطالي وبداية تفاعل الليبيين مع الإيطاليين والثقافة الإيطالية وقد رعى كل ذلك إيطاليون في المدارس التي افتتحوها لتعليم الليبيين. وحسب ما يروى ممن عاصروا تلك المرحلة كان الإيطاليون هم المقتنون لأعمال الرواد الليبيين الأوائل من الرسامين وكانت مواضيع البيئة الليبية بريفها وباديتها وعادات وتقاليد أهلها هي المواضيع الأكثر رواجا. ويمثل عوض اعبيدة الذي درس على يد الإيطاليين وزار متاحف إيطاليا منذ ثلاثينيات القرن الماضي النموذج الأكثر اكتمالا لهذه النقلة تقنية ومواضيعَ.

لقد ظل الرسم والتلوين والتزيين والرقش على أسطح تلك المصنوعات الحرفية يصور على سطح مفتوح ولا يتقيد بالمنظور الواقعي للكون ولا يتقيد، بالتالي، بالتناظر ولا التقابل ولا التوازي البصري. كان التناغم البصري المتعة البصرية والجمالية التي تهدف لإغواء المستهلك وإقناعه لاقتناء السلعة، فتجد على سطح النسيج غزالا فوق الشجرة ويدا بشرية أكبر من الغزال مثلا. وكل تلك العناصر أو المكونات أو الأيقونات منثورة كارتجال عازف «جاز». كل هذا يظهر في تلك الأعمال التزيينية للسلع على نحو متناثر لا إطار له.

اللوحة الأوروبية ليست إلا شباكا يفتحه لنا الرسام على الحياة والطبيعة، على الملائكة والشياطين، على كل عناصر وتاريخ الكون والحياة، كلها تظهر لنا مؤطرة بشباك. فرغم تنوع التجارب إلا أن اللوحة الأوروبية ثم العالمية ليست إلا شباكا نطل منه على عناصر اللوحة، عكس اللوحة الشرقية «اليابانية والصينية» التي تتشابه مع أعمال تزيين حرفيينا الليبيين.

إذن، الرائد الليبي، متأثرا بالتأطير الأوروبي للعالم في العصر الاستعماري، انتقل عمليا من سطح السلع المفتوح إلى إطار الشباك، إلى اللوحة المنفصلة عن السلعة وإلى العمل الجمالي بدل العمل الحرفي المنتج لسلع تخص الاستخدام اليومي.

انفصال العمل الفني عن سطح سلعة الاستعمال اليومي وانفصال الفنان عن الحرفي والذي جرى وكما أشرت في فترة الاستعمار الإيطالي لم يشمل النساء رغم إرثهن الكبير في الرسم والتزيين المرتبط بالحرف وإنتاج السلع، وبالطبع لم يشمل إلا عددا ضئيلا من الليبيين من الرجال الذين أتيحت لهم فرص التعليم والاطلاع وبالتالي القابلية للتأطير.

التأطير، وهو ركن مهم للتحديث الاجتماعي، لم ينجح فيه الإيطاليون بشكل كبير كما نجح مستعمرون آخرون في بلدان أخرى، ربما لم يكن من أهدافهم الأساسية من الاحتلال «تحديث المجتمع الليبي» كما ظلوا يدعون.

الليبيات ظللن يزين جدران البيوت والنسيج، ظللن ينتجن العمل الفني البصري لآلاف السنين، بل قد لا أبالغ إن قلت إن إنتاج البصر الليبي كان في غالبيته للنساء.

كان النسيج وتزيين الجدران بالبيوت عمل المرأة الليبية الفني المتواصل والمتراكم لآلاف السنين. لقد ظلت المرأة الليبية منتجة لتلك الأعمال الفنية التزيينية، ولكن ومع دخول اللوحة، مع التأطير الأوروبي ولوحة الشباك اختفت المرأة كمنتج للفن وقبعت هناك مع الحرفيين في ركن الصناعات التقليدية ولم تنتقل، رغم إرثها الكبير، إلى فضاء اللوحة، إلى الشباك الأوروبي حتى ستينيات القرن الماضي.

المرأة تحولت إلى موضوع وأيقونة في أعمال لوحة الشباك الأوروبي الليبي التي رسمها فنانون ذكور، فظهرت صورة المرأة الريفية والبدوية وحتى صورة حريم المدينة الليبية المتخفيات خلف الفراشية أو المطلات من وراء الأبواب تلصصا.

المرأة الليبية الفنانة الرائدة التي اقتحمت فضاء اللوحة «الشباك» أو «اللوحة الحديثة» بمشروع فني اجتماعي، كانت جيلا كاملا من الرسامات والخزافات والنحاتات خرجته في غالبه كلية الفنون، التي ورغم كل ما قد يقال عنها من انتقادات إلا أنها ربت أو كونت الفنانة الليبية الرائدة.