Atwasat

الفلسفة في بنغازي (7)

سالم الكبتي الأربعاء 29 نوفمبر 2023, 07:59 مساء
سالم الكبتي

ظلت مجلة قورينا التي تصدر عن كلية الآداب ملتقى لأفكار عديدة. نشرت الدراسات والبحوث والمقالات والقصص والأشعار وتابعت أخبار الجامعة. كانت صوتا قويا للطلبة تلك الأيام.

ونشر فيها أيضا أساتذة الكلية أراءهم ودراساتهم. أضحت مكانا لسباق الأفكار فيما ظل مدرج رفيق يشهد المحاضرات ثم ندوة قورينا في ليالي رمضان التي رعتها المجلة إضافة إلى الحوارات واللقاءات التي جمعت الطلبة في ردهات الكلية وحديقتها ومقهاها.

في جانب آخر صدرت عن كلية الاقتصاد مجلة دراسات في الأعمال ثم مجلة الاقتصادي وبعدها مجلة العدالة في كلية الحقوق ونشطت الجمعيات الطلابية في إصدار نشراتها وصحفها داخل الكلية. كان نشاطا فكريا ملحوظا لم يتوقف ولم يتدخل فيه أحد من السلطة أو إدارة الجامعة والكلية.

كانت الجامعة ترى في طلابها قادة للمستقبل.. يصنعونه ويشاركون فيه ويسهمون في انطلاقه وتطوره. وذلك ما جعل الفيلسوف بدوي يشارك بمحاضرة مهمة في الذكرى الخامسة عشر لتأسيس الجامعة الليبية أواخر عام 1970 عنوانها دور الجامعة.

هذا الحراك والتفاعل الفكري الثقافي من الطلاب والأساتذة سيحجر عليه لاحقا وسيتابع ويراقب ويصنف من يقوم به أو يتولاه بتصنيفات جديدة قديمة.. الشيوعية والأخوانية والبعثية والماركسية.. والوجودية والإلحاد وما إلى ذلك لتحدث صدمة قوية تقلب الجامعة رأسا على عقب. ستصير الجامعة تقدم فلسفة جديدة تختلف عن سابقتها لم يألفها المثقفون والفلاسفة والرواد. تغير كل شيء واهتز وانعكس ذلك على الجامعة التي ستصنع المستقبل!

ظل الكثير من الطلاب والأساتذة تحت مجهر التدقيق والتصنيف وتشابكت الخطوط وضاعت الدروب والمعالم واتخذت الأمور منحى مغايرا يختلف عن السائد والمعروف.

بودبوس تلميذ بدوي فاز في مسابقة أقامتها اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب التابعة لوزارة الإعلام والثقافة في ربيع عام 1969 شملت طلبة الجامعة والجامعة الإسلامية في البيضاء وتنوعت مجالاتها في البحث التاريخي والفن التشكيلي والشعر والقصة وغيرها. تقدم بودبوس بقصته المكونة من عدة لوحات يجمعها عنوان واحد هو في المنفى. انجزها في الخامس عشر من يناير 1969. ونال عنها جائزة مالية من الوزارة. كان نشر بعض فصولها في قورينا ثم أصدرها في كتاب عن مكتبة قورينا للنشر والتوزيع في بنغازي عام 1975. القصة هي حكاية أو سيرة غير مباشرة لبودبوس نفسه. يقول عنها:(صحيح أن هذا العمل أقرب إلى يوميات كير كجورد أو يوميات ميتافيزيقية لجبريل مارسيل والغثيان لسارتر وأيضا زاردشت لنيتشه. إنه قريب إلى هذه الاعمال للنزعة الفلسفية الغالبة عليه ولأن التكتيك يكاد يكون واحدا).

اللوحات داخل القصة هي مراحل أربع لشخصية قلقة تبدأ بوعيها بوجودها الخاص ثم موت صديقها وشعوره بالغربة نتيجة اختلاف مفاهيمه عن غيره من الناس. البداية ثم الطريق إلى المنفى ثم الوصول إلى أبواب المنفى ويحلل عبرها موقف تلك الشخصية من المجتمع والأخلاق السائدة. ويعترف بأن هذه الشخصية ليست بغريبة فهي شخصية شباب هذا الجيل الذي يسميه الجيل المأساوي الذي يحمل في نفسه مأساة التناقض: (فهو من حيث مولده ينتمي إلى القديم ومن حيث ثقافته ينتمي إلى الجديد ويثور على القديم ولكنه في نفس الآن يثور على نفسه. منفي يكتب عن منفيين). إذن هي سيرة جيل بودبوس بين حي خريبيش وأزقة بنغازي والواقع ومدرج رفيق والجامعة وبدوي وكل الأساتذة والمنهج.. والغربة النفسية والفكرية عبر ذلك كله.


ومع صيحات التمرد فازت القصة أو شبه الرواية القصيرة بالجائزة واستلمها في حفل بحضور الوزير ورئيس الجامعة والكثير من المهتمين. يكتب بودبوس رافضا: (هذا هو مجتمعنا.. مستنقع وهؤلاء هم أناسه ديدان تسعى تلتقط الفتات وتتكيء على ظهورها في نوم عميق. مستنقع متساوي الأوهام والأفكار القذرة وديدان تزحف دون أن تفكر وأنا في ظل هذه الرتابة وهذا الركود أختنق. تخنقني حكمة الشيوخ وفضائلهم. تخنقني أوهام العجائز حول مواقد النار.

تخنقني فكرة أنهم حصروا كل شيء. ما كان وما سيكون. نحن لا نعيش حياتنا. نحن كما يريدون نكرر حياة الشيوخ ونترسم فضائل العجائز. لقد ضيع الشيوخ جيلي) وأيضا: (... أن ما يعترضنا جيل متراكم من خرافات العجائز وأن الحمل الثقيل يريد أباؤنا لنتخلص منه لنحمله على أكتافنا. فلنكن شجعانا ولنكن أقوياء.

أن مخلفات الماضي تسمم أفكارنا وتعقد حياتنا وأن التمرد على فضائل العجائز لأنجح سبيل!). وهكذا تسير دروب القصة وسيرة بودبوس وتنشر وتفوز أيضا بجائزة. كان تأثير الفلسفة ومنهجها قويا عبر سطورها من البداية إلى النهاية.
في الأيام الأولى من سبتمبر 1969. قدم التلفزيون برامج وحوارات مع العديد من المثقفين المهمين ودورهم ورأيهم في التغيير. كان هناك برنامج أسمه لقاء أعده وقدمه يوميا حسين مخلوف حاور فيه الشاعر محمد الفيتوري والناقد محمد زغبية والكاتب محمد عبد الرازق مناع والشاعر خالد محادين وحسن صالح.. وغيرهم وقدم أيضا شعيب المنصوري الأستاذ بالجامعة والمشرف على مجلة قورينا ندوة مهمة عن حرية الكلمة استضاف فيها.. خليفة الفاخري ورجب بودبوس وعبد الحميد البرعصي (الطالب بالفلسفة أيضا) وعبدالقادر الشريف. بدأها خليفة بأبيات شهيرة للبياتي محذرا من الوقوع في الفخ..(الحاجب الأصم والبواق والطبال.. فرسان جيل العار.. يلطخون راية الثوار.. بالدم والأوحال).. فمن يسمع؟

ثم اختير بودبوس معيدا. نال الماجستير والدكتوراة في الفلسفة المعاصرة. قام بتدريسها في الجامعة في بنغازي بعد عودته من فرنسا عام 1976. لم يكن بدوي أستاذه موجودا. لم تكن الفلسفة كما كانت. صار المنفى عدة مناف في الداخل. لقد وشي أحد الطلبة بأستاذه بدوي عبر تقرير إلى جهات الأمن وإلى الاتحاد الاشتراكي في الجامعة واعتبره مسؤولا عن نشر الإلحاد والفكر اليساري في الجامعة. قضى أياما في السجن ثم غادر بنغازي.

قبل ذلك تم إبعاد د. عيسى عبده الأستاذ بكلية الاقتصاد بحجة توجهه الإسلامي. كان من المفترض أن يغادر في الطائرة التي أسقطت فوق سيناء في فبراير 1973 لكن وجوده في المستشفى تحت الحراسة مريضا أخر سفره إلى حين. التهبت الجامعة واشتعلت فيها نيران التطهير والثورة الثقافية. بعد بودبوس. برز طلاب أخرون في مقدمتهم فتح الله انديشه وعلي الريشي ويوسف صالح الشكوي الذي نشط في الاتحاد الطلابي واتهم بالشيوعية مع عبد العزيز الغرابلي.

اختير معيدا في الفلسفة. وجد نفسه في السجن هو وانديشه بنفس التهمة. ثم رحلا إلى العالم الآخر. طغت الفلسفة الجديدة. الطلاب الثوريون قرعوا الأبواب ودقوا الأجراس بعنف وأزالوا من الطريق كل المرضى والمنحرفين والفلاسفة المختلفين.. على حد رأيهم. وكان الطرد أو السجن.. المنفى الداخلي هو العلاج الوحيد الذي رأته السلطة وحرضت أولئك الطلاب بالمزيد عليه. فلسفة الشعارات والعنف والتطهير والولاء قبل أي شيء آخر. سقطت الفلسفة أم العلوم والحكمة بين الأقدام التائهة!!