Atwasat

النيهوم وبوشويشة.. النقد لا يُفسِد الصداقة

إبراهيم حميدان الخميس 23 نوفمبر 2023, 04:20 مساء
إبراهيم حميدان
صادف يوم الثلاثاء الماضي 21 نوفمبر الذكرى الثانية لرحيل القاص والصحفي والفنان التشكيلي رضوان بوشويشة، وقبل ذلك بنحو أسبوع كان العديد من الكتاب والصحفيين قد توقفوا على صفحات التواصل الاجتماعي عند الذكرى التاسعة عشر لرحيل الكاتب والأديب الصادق النيهوم يُشيدون بتجربته الأدبية والفكرية، ويُجدّدون التأكيد على أهميتها وحيويتها. بوشويشة من مواليد العزيزية سنة 1945، والنيهوم مواليد بنغازي سنة 1937 بحي سوق الحشيش.

علي فهمي خشيم كتب عام 1968 مقالته الشهيرة «الظاهرة النيهومية» يرصد فيها انطلاقة النيهوم التي كانت قد بدأت قبل عامين من ذلك التاريخ على صفحات جريدة الحقيقة وكأنه يتنبأ بأن هذا الكاتب سوف يصبح الأكثر شهرة في ليبيا، والأكثر تأثيراً في الأجيال الشابة، بمن فيهم الشباب الذين جاءوا بعد جيله، وبأن كتاباته سوف تبقى بعد عشرين عاما على رحيله تلقى إقبالاً من القراء.

وعلى نفس منوال خشيم كتب حسين المزداوي عام 2006 مقالة بعنوان «الظاهرة الرضوانية»، نشرها على صفحته على الفيسبوك، حاول فيها الإحاطة بتجربة هذا المبدع، راصدا بداية انطلاقته من منطقته العزيزية التي يحب رضوان أن يسميها باسمها الليبي: الكدوة. وفي مقابلة أجراها معه الروائي الأريتري أبوبكر حامد نُشرت على موقع الوسط بتاريخ 27 فبراير 2014 يقول بوشويشة أن قريته الكدوة تحضر في لوحاته ومن بينها لوحة «سراب الليل» وأنه بدأ يرسم بعد سن الخمسين، حتى أن ابنته فرح وهي مخرجة سينمائية قالت ساخرة: «أنا عن والدين هما الأغرب في المجموعة الشمسية، والدي بدأ يرسم بعد الخمسين، ووالدتي عادت لدراستها الأكاديمية بعد الخمسين».

ولكن هل يُمثّل رضوان بوشويشة ظاهرة كما قال حسين المزداوي؟ وأطرح السؤال بصيغة أخرى: هل هناك تشابه بين تجربة النيهوم وبوشويشة اللذين نستعيد ذكرى رحيلهما هذه الأيام؟

هما تجربتان مختلفتان، ولكن ثمة مشتركات بينهما، النيهوم له إنتاج غزير متنوع، بين الرواية والقصة القصيرة والترجمة والمقالة الاجتماعية الساخرة والمقالة الأدبية والتاريخ، إضافة إلى إشرافه على إصدار موسوعات علمية، من خلال دار نشر تولى إدارتها في جنيف بتمويل من الدولة الليبية، وبرامج تلفزية لصالح التلفزيون الليبي. كما أن النيهوم أثار عبر كتاباته جدلاً ونقاشاً حول قضايا اجتماعية ودينية، ونذكر الجدل الذي أثارته سلسلة مقالاته «الرمز في القرآن» عام 67، ثم عاد ليثير النقاش مجدداً حول قضايا دينية وسياسية من خلال مقالاته الشهرية على صفحات مجلة الناقد اللندنية منذ عام 88 وحتى وفاته عام 1994. جمعت تلك المقالات وصدرت عن دار الريس في ثلاثة كتب، وتمت مصادرتها في بيروت عام 1995.

أما بوشويشة فقد برز اسمه في مرحلة مختلفة، أواخر الستينات وطوال السبعينات، وقد عاش هو أيضا لسنوات عديدة في الخارج، أيرلندا وإسبانيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، لكنه لم يستقر بشكل نهائي كما فعل النيهوم وعاد إلى ليبيا، وصدرت له أول مجموعة قصصية باللغة الإنجليزية وهي «ملك الموتى» عام 1977، كما أصدر كتبا في التاريخ: «عند باب البحر: هوامش مجهولة من تاريخ طرابلس» 1987، و«الشعب الخفي: كفاح القومية والدين في أيرلندا»، 1981، و«من القمع إلى الثورة» 1983، وأيضا مسرحية «حمودة الزاهي»، وفي 1996 أصدر مجموعته القصصية باللغة العربية «موجة حب إلى غرناطة» كما كتب مسرحية «حمودة الزاهي» ونصاً سينمائياً «أقواس المطر» صدر في كتاب عام 2008 عن اللجنة الشعبية العامة للثقافة، وله كتابات ومقالات عديدة نشرها في الصحافة خاصة خلال السبعينات، إضافة إلى ممارسته للرسم وانخراطه في الفن التشكيلي خلال العقدين الأخيرين، وتراجع حضوره كاتبا.

حظيت كتابات النيهوم باهتمام النقاد والصحفيين، فكتب عنها كثيرون يصعب حصرهم، ليبيون وعرب، أيضاً استقطبت تجربة بوشويشة اهتمام النقاد والصحفيين، مع الفارق في حجم الكتابات بين التجربتين. فكتب عنه منصور بوشناف وسالم العوكلي وأحمد الفيتوري وسميرة البوزيدي ومفتاح العماري وعبدالرحمن شلقم وحسين المزداوي ويونس الفنادي ومحمد التليسي وإبراهيم الكوني وبشير زعبية ومحمد عقيلة العمامي وفرج العربي وناصر الدعيسي وجمعة عبدالصبور ومحسن الخياط. وخصصت مجلة فضاءات التي كان يترأسها عبدالمنعم محجوب ملفاً حول تجربة بوشويشة التشكيلية والأدبية، شارك فيه كل من علي الزويك والقذافي الفاخري ومحمد الكيش وسميرة البوزيدي ورامز النويصري.

الكتابة المشاغبة المثيرة للجدل
تميزت الكتابات الصحفية لكل من النيهوم وبوشويشة بطابعها النقدي المشاغب والمشاكس، وبجرأتها في تناول القضايا والمواضيع، مع اختلاف القضايا التي تناولها كل منهما، فكتابات النيهوم التي أثارت ردوداً هي في أغلبها تلك التي تناولت الفكر الديني والسياسي بالنقد، أما كتابات بوشويشة فإن طابعها النقدي الحاد والاستفزازي هو الذي حفز الآخرين على الرد عليها، فهو لم يتطرق إلى الفكر الديني أو السياسي، لكنه تناول في مقالاته الصحفية كتباً وتجارب أدبية مثل مقالته عن ديوان «خمائل الصمت» للشاعر الشارف الترهوني في صحيفة الأسبوع الثقافي بتاريخ 10 ديسمبر 1976، التي سخر فيها من قصائد الشاعر وانتقد الديوان بأسلوب استفزازي، وكذلك نقده لكتابي فوزي جلال: «التائه أبدا يعود» و«أوتار من سيمفونية عاشق» التي رد عليها ناصر الدعيسي بتاريخ 25 أغسطس 1978، ومقالته «الأيديولوجيا كفن» عن السيرة الذاتية للشاعر الأرجنتيني «نيرودا» التي رد عليها منتقدا ما جاء فيها عمر الككلي .

وللتعرف أكثر على طبيعة تلك المقالات الصحفية المشاكسة التي كان ينشرها بوشويشة في تلك الفترة سأتوقف عند مقالته التي نشرها على صفحات صحيفة الجهاد بتاريخ 17/12/1976 وجاءت ضمن الردود على مقالة نقدية للناقد سليمان كشلاف كان قد نشرها على ذات الصحيفة قبل ذلك منتقداً فيها تجربة النيهوم. مقالة بوشويشة الداعمة لكشلاف، جاءت بعنوان: «اكبروا يا أطفال النيهوم» وينتقد فيها الذين علقوا على مقالة كشلاف مدافعين عن النيهوم، وقد رأى أنهم يُبالغون ويُضخمون من صورة النيهوم ويحولونه إلى أسطورة وشخصية خرافية. يقول بوشويشة ساخراً من كتابات هؤلاء: «إنهم يتحدثون عن صادق النيهوم هذه الأيام كما لو أنه أحد رواد الفضاء، أو مخترع لعلاج سرطان الدم، أو المهدي الذي انتظرناه طويلاً ووصل بالطائرة قبل أيام من بلاد البركة».

ثم وفي مكان آخر من المقالة نقرأ رأيه في كتابات النيهوم: «لا أجد أي مبرر لاتفاق هؤلاء على الدفاع عن إنسان كتب مقالات جيدة قبل سنوات، ثم تحول إلى الألغاز المقفلة - القرود» ثم يصف رواية «من مكة إلى هنا» بأنها «رواية بلا رؤية»، وأن النيهوم في هذه الرواية «صور الاستعمار الإيطالي كما لو أنه من الملائكة» دون أن ينسى أن يثني على مجموعته «من قصص الأطفال» ومقالاته القديمة وينتقد كتابه «نقاش» الذي يصفه بأنه «أحد الطلاسم التي لا يقدر على أن يفهمها حتى سحرة مراكش».

ويضيف رضوان: «لقد قلت له ذلك في وجهه». يقصد أنه أخبر النيهوم بانتقاداته تلك.
وكما نلاحظ يتسم أسلوب «بوشويشة» في الكتابة النقدية بالحدة والطابع الهجومي الساخر، وإن لم تخلُ ملاحظاته النقدية من ذكاء وفطنة، بل إنه نجح في أن يضع يده على ما يمكن اعتباره نقاط الضعف في النتاج الأدبي والفكري للنيهوم خاصة كتبه: «نقاش، القرود، الحيوانات، من مكة إلى هنا»، وهي الأعمال التي راح البعض يُكيل لها المديح المجاني دون أن يقدم لنا الحيثيات والأسانيد التي اعتمدوا عليها ليصلوا إلى تلك الأحكام التي تفيض بالإطراء والثناء، ربما لأن أصحاب هذه الكتابات يفتقدون القدرة على التحليل النقدي وعلى استخلاص القيم الجمالية والأبعاد الدلالية حين يتناولون هذا العمل الأدبي أو ذاك، مستسلمين لسطوة الشهرة التي يتمتع بها النيهوم. وللأسف ما زالت هذه الظاهرة موجودة حتى اليوم، وقد قرأت عبر فترات متباعدة كتباً حول النيهوم هي في الأصل رسائل ماجستير ودكتوراه لكنها ما زالت تكرر كلاماً سبق وأن انتقده بوشويشة في منتصف السبعينيت. فلا تدقيق وتثبت في المعلومات ولا تريث في إطلاق الآراء والأحكام، ولا رؤية نقدية للنتاج الأدبي أو الفكري.

لم يكتف بوشويشة بكتابة هذا الملاحظات النقدية عن تجربة النيهوم فقط بل وجهها له مباشرة في الحوار الذي أجرته صحيفة الأسبوع الثقافي بتاريخ الأول من أغسطس 1978 بمقر الصحيفة بطرابلس، وصدر لاحقا في كتاب عن دار تالة، وشارك في الحوار رئيس تحرير الصحيفة آنذاك عبدالرحمن شلقم وإبراهيم الكوني وفاطمة محمود إضافة إلى بوشويشة.

وفي مقالة لعبدالرحمن شلقم نشرها على صفحته على الـ«فيسبوك» عقب وفاة رضوان بوشويشة في مثل هذه الأيام من عام 2021 يذكر شلقم كيف تعرف على بوشويشة في مقهى زرياب بطرابلس، ويصفه بأنه كان صدامياً وله صوت عالٍ في النقاش، لكنه يشير إلى علاقة الصداقة بين بوشويشة والنيهوم الذي كان يحتفي برضوان، يناقشه، ويستفزه ويُعلق عليه بكلمات وبسمات. قال رضوان بوشويشة مرة: إنه ذاهب لتغطية أحد المؤتمرات، علق عليه النيهوم ساخراً: أنت لن تغطي المؤتمر بل ستعريه.

التعليقات النقدية الساخرة كانت سمة مشتركة في شخصية الكاتبين.
في ذلك الحوار أعاد بوشويشة على مسمع النيهوم تلك الانتقادات التي كان قد أوردها في المقال الذي أشرنا إليه أعلاه بما في ذلك تلك الملاحظة الذكية من أن النيهوم في روايته «من مكة إلى هنا» تأثر بأسلوب المترجم منير البعلبكي في ترجمته للأدب الأميركي، عبارات وكلمات من نوع: الزنجي، ابن العاهرة، اذهب إلى الجحيم إلخ. المفارقة أن النيهوم وافق على ملاحظة بوشويشة وقال بشجاعة: «أشعر بالخجل من تأثري في تلك الفترة بهمنغواي.. كان شخصاً أساسياً، ومسعود الطبال مكتوب بروح همنغواي».

اعتراف مثل هذا لا يصدر إلا عن كاتب كبير، وقد كان النيهوم كذلك، لم يُكابر، ولم ينخرط في العناد والإصرار على أنه على صواب، وكان طوال الحوار يناقش ويرد على الملاحظات النقدية بشكل هادئ، وقد لاحظنا لاحقا هذه الروح المتقبلة للنقد على صفحات مجلة الناقد التي كانت تنشر ردودا على مقالات النيهوم أوائل التسعينات بعضها لا يخلو من غضب واتهامات، ورغم ذلك كان النيهوم يتقبلها ويرد عليها بهدوء ودماثة غالبا.

ورغم اللغة الاستفزازية والأسلوب الحاد لآراء بوشويشة التي لا نوافق عليها، لأنها أحيانا تفتقر إلى الإنصاف والموضوعية إلا أنها تكشف عن قارئ ناضج لا يرضخ لمسلمات سادت وترسّخت رغم أنها خاطئة، ويُعمِل عقله وتفكيره النقدي وهو يقرأ التجارب الأدبية والفكرية، ويُراجعها دون مراعاة للمجاملات التي تسود حياتنا الاجتماعية والثقافية، والتي قد تنعكس سلباً على النتاج الثقافي وتساهم في جموده وتخلفه بدلاً من أن تساعد على تطويره والارتقاء به عبر النقد الموضوعي. الجميل في الأمر أن العلاقة بين النيهوم وبوشويشة لم يفسدها هذا النقد رغم حدته أحياناً، واستمر الود والاحترام بينهما، وهي من الأمور النادرة في واقعنا الثقافي. وما أحوجنا اليوم إلى هذا النوع من العلاقات بين الأدباء والكتاب، لا تتأثر بنقد النتاج الأدبي والفكري الناضج المُحفّز على التفكير والتطوير.