Atwasat

الفلسفة في بنغازي (6)

سالم الكبتي الأربعاء 22 نوفمبر 2023, 03:02 مساء
سالم الكبتي

وفي بنغازي عكف الفيلسوف بدوي أغلب الوقت في مكتبة الجامعة كاتبا ومراجعا لعناوين أرففها. وكان يستغرقه اليوم في القراءة والمطالعة. كانت المكتبة يومها في وسط المدينة على بعد خطوات من الكلية وعلى بعد خطوات أقل من شقته المجاورة للمكتبة. وكان يدقق ويعد الملاحظات ويوصي بالمزيد من العناوين والمراجع لتقوم الجامعة بطلبها من مصادرها الرئيسة. وقد قامت بالفعل بمتابعة وإحضار ما طلبه في شتى المعارف. كان له فضل في تزويد المكتبة أيامها بالمزيد من تلك المراجع التي أفاد منها الطلاب والباحثون.

وهناك في ردهات المكتبة عكف أيضا على إصدار مزيد من مؤلفاته وترجماته إلى العربية. فنشرت له الجامعة تاريخ الفلسفة في ليبيا من جزئين: الأول لكرنيادوس القورينائي والثاني لسونسيوس القورينائي عام 1971. وكتابا آخر عام 1973 هو: رسائل فلسفية للكندي والفارابي وابن باجه وابن عدي. تحقيقا وتقديما. وتخلل هذه الإصدارات عن الجامعة إصدارات أخرى عن دار ليبيا للنشر والتوزيع في بنغازي. كان قد تولى تأسيسها الأساتذة.. عبد المولى لنقي ومحمد بن يونس ومحمد بن صويد وحسين الكنيالي. تنوير في المدينة وليبيا يحدث. نشرت له كتابين عام 1969: الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة. والثاني ترجمة مهمة للكاتب ألفرد بل الفرنسي. الفرق الإسلامية في الشمال الافريقي من الفتح العربي إلى اليوم.

نشاط علمي محموم انغمس فيه الفيلسوف في بنغازي ولم ينهج سواه. لم يتخط حدوده العلمية. لم يفصح عن رأيه السياسي أو تحفظاته أو انتقاداته للوضع في البلاد أو خارجها. ربما ظل يكتم في جوفه ما يشعر به ولا يستطيع أن يفصح عنه. يضيق صدره ولا ينطق لسانه. لقد اعتبرته الجامعة الليبية واجهة مشرفة من واجهاتها العلمية وكان حضوره لهذه الأنشطة العلمية ووجوده فيها دليلا على مكانة الجامعة وما تحتويه في جوفها من أساتذة كبار لهم القول الفصل تلك الأيام في المحافل والأجواء العلمية في المنطقة والعالم أيضا.

وفي شقته الصغيرة ظل منعزلا وحده وفي اللحظات التي يأنس فيها للخروج كان وقته يقضيه مع نفر قليل من الأصدقاء في بنغازي الذين ارتاح لهم وعرفوا قيمته منذ زمن. كان في بعض الأحيان يحب الخروج إلى البحر غرب بنغازي مع د. مراجع الغناي أستاذ التاريخ الإسلامي في الكلية. الذي كان يجيد التعامل مع فنون البحر والصيد خلاله. وكان الفيلسوف يحب البحر والسمك. وكان يجول في سوق الحوت في وسط المدينة للتمتع بمنظر الأسماك الشهية ويخاطب أصدقاءه.. أنتم لا تعرفون قيمة البحر وما فيه. إنه يحيطكم من كل جانب. وتغفلون عن كنوزه. هناك الكافيار. لا تشعرون بقيمته ولا تأكلونه.

إنكم تهملونه تماما في وجباتكم. كان يقوم بشرائه من السوق ويحب تناوله. وكنا نحن نسميه (البوزويه).. ونهمله حقا في أكلاتنا!
كان يأنس للدكتور الغناي كثيرا وأولاده الصغار الذين يرافقونهما إلى الشواطيء في أيام العطلات. وظل د. الغناي صديقا للفيلسوف ويعرف عنه الكثير.

وفي الصيف كان الفيلسوف يتفرغ لإجازته تماما. يقضيها في اسبانيا أو إلى مكانه الأليف.. باريس وهناك يلتقي بأصدقائه من فرنسا والعالم العربي. ويحادثهم ويحاورهم. كان من الطلبة العرب هناك.. أحمد فتحي سرور وحسن حنفي وفهمي جدعان ومحمد عبدالكريم الوافي وغيرهم. كان نقاشهم في الفلسفة وقضاياها وأبعادها وتفاصيلها. كان بعد انتهاء الجلسات في المقاهي وتناول الأكل أو المشروبات يدفع عن نفسه دون الآخرين وينصرف. كان هذا البخل البدوي مشهورا عنه ولا يفترق في تقاطيع شخصيته.

ومن تلك الجلسات يخرج وهو يتأبط حزمة صحف اليوم الفرنسية أو مجلاتها. يصل إلى منزله القديم الذي يأوي إليه منذ زمن. وأحيانا كثيرة يقول من عرفه واقترب منه في الأيام الباريسية يسحب خطواته إلى صديقته القديمة في حي البغايا.. ثم يعود!
كان في بنغازي لا تفوته متابعة الصحف المصرية.. الأهرام وغيرها. يشتريها من كشك الصحف مقابل إدارة الجامعة ويتأبطها ويجلس في أحد مقاعد كلية الآداب ويشرع في قراءتها. كان يبدأ بصفحة الوفيات ثم يقرأ الصفحات الأخرى.
وذات صيف وصله ما حدث من تغيير في ليبيا.

وبدأ في بنغازي الفلاسفة الصغار في التحليل والكتابة والكثير من النشاط. بعضهم رأى في ذلك ورما يضاف إلى أزمة العسكرية العربية وتورمها وتململا مما هو قادم. وهنا رجب بودبوس يلقي محاضرته ذات ليلة في رمضان بعد التغيير بأشهر ثلاثة عن الثورة.. عنوانها (محاولة في علم الثورة) حاول عبرها استشراف الحرية والمستقبل. نشرها لاحقا في مجلة قورينا. كان قد تخرج من قسم الفلسفة والاجتماع بتقدير جيد جدا ذلك الصيف الحار وعين معيدا بالكلية ليرسل بعدها إلى اكس بروفانس في فرنسا لمواصلة الدراسة العليا في الفلسفة. لم يرحب من جهته كثيرا بما حدث وتوجس أيضا مما تخفيه الأيام. لكن الأيام بدورها ستجري في غير أعنتها..!!