Atwasat

نحن والمرايا

منصور بوشناف الجمعة 17 نوفمبر 2023, 12:06 صباحا
منصور بوشناف

لم يكن للمرايا حضور في حياتي الأولى، أعني المرايا المصنوعة لأغراض تأمل الذات والتزيين وإصلاح المظهر قبل الخروج ومقابلة الناس، لم أر وجهي منعكسا إلا في غدران السيول أو في عيون أهلي وجيراني ورفاقي، فبيتنا كان كغالبية البيوت خاليا تماما من المرايا، ربما كان لأمي "كسرة من مرآة" تخبئها عنا ولا تخرجها إلا عندما تتأكد من ألا أحد يراها، كانت المرايا نادرة إن لم تكن معدومة الوجود في حياتنا الأولى.


على هذا النحو كبرت وربما كبر الكثيرون مثلي وهم لا يعرفون ملامحهم جيدا وقد لا أبالغ إن قلت إن أجيالا من الليبيين رحلوا وهم لا يعرفون ملامحهم وأشكالهم إلا عبر مشاعر الآخرين وعيونهم وفي أحسن الأحوال في غدير ماء.


صورتنا عبر عيون الآخرين ليست واحدة ولا ثابتة بالتأكيد، إنها متنوعة ومتناقضة.
هي لا تختلف عن حالات صورهم في عيوننا، تشكلها حالتنا النفسية وهيئتهم ولباسهم وحتى روائحهم لحظة تشكيلنا لصورهم وهم يدخلون مجال بصرنا لتكون عيوننا لهم "مرايا" انطباعية ترسم لهم صورا شخصية تلونها أحاسيسنا وعواطفنا.


صورتنا ليست واحدة ولا ثابتة ندرك هذا مبكرا فصورتنا في عين الأم ليست هي نفسها التي في عيون الأب ولا التي في عيون الجيران والمعارف، ليست التي في عيون المحب هي تلك التي في عيون الكاره، بل إن صورتنا وملامحنا ليست واحدة وثابتة في مخيلاتنا فهي متغيرة ومتناقضة أحيانا.


لكن وفي كل الأحوال فإننا نحتفظ بصورة لذواتنا وهيئتنا قريبة وأليفة لنا تحضر دائما ونحن نتخيل أو نتذكر موقفا أو حادثا أو تاريخا نكون فيه حاضرين.


من المواقف الطريفة التي تعبر عن علاقة أجيال ما قبل الاستقلال وقبل النفط بالمرايا ما حكاه لنا الأستاذ أحمد بورحيل المسماري وهو ابن المجاهد يوسف بورحيل، نائب عمر المختار الذي تولى قيادة المقاومة بعد إعدام عمر المختار حتى استشهد بالقرب من الحدود المصرية وقطع الإيطاليون رأسه وعلقوه في معسكرات الاعتقال كإعلان عن نهاية المقاومة.


الأستاذ أحمد بورحيل كان سجين رأي سبعينات القرن الماضي واصلت الفاشية الوطنية اعتقاله ونزعت اسم والده من سجلات الجهاد كما نزع الفاشست الطليان رأسه عن جسده. درس القانون بالجامعات المصرية فترة الخمسينات من القرن الماضي وعرف حياة مختلفة في القاهرة حيث تنتشر المرايا صورا وأفلاما ومرايا من زجاج.


في سجن الكويفية ببنغازي حظيت بلقاء المعلم والمناضل الديمقراطي أحمد يوسف بورحيل مع سجناء رأي آخرين سبقونا إلى السجن، كانوا مرايا لنا، رأينا فيها ذواتنا الهشة صلبة، وتجربتنا الصغيرة متجذرة، تأكدنا عبر تلك المرايا أننا لم نكن صغارا طائشين بل بذورا سترعاها التجارب وتكبر.


بعد استطراد الشيخوخة هذا أعود لمرايا أحمد بورحيل: قلت إن أحمد بورحيل كان يدرس القانون في القاهرة وكان يخرج مساء ليتجول في الشوارع المزدحمة متأملا المحلات والمقاهي والحدائق وفي إحدى الأماسي رأى وهو يمر شخصا أحس لوهلة أنه يعرفه ولكنه لم يتوقف بل مضى في طريقه يدفعه الزحام وابتعد عن الوجه الذي أحس أنه يعرفه ولكن الوجه لم يبتعد عنه ولم يفارقه مما جعله يعود أدراجه ليتعرف على صاحب الوجه والملامح التي تأكد أنه يعرفها ويعرف صاحبها فقد يكون بل ومن المؤكد أنه ليبي وربما حتى "مسماري" كما قال أحمد أبورحيل ضاحكا في سجن الكويفية لنا.
أحمد أبورحيل عاد إلى المكان الذي رأى فيه الوجه الذي يعرف، كان محلا لبيع الأثات، وقف هناك ورأى نفس الوجه، نفس الملامح، نفس الهيئة، وكان الوجه وجه أحمد بورحيل نفسه في مرآة بمحل الأثات فابتسم لنفسه ومضى.
في المرايا التي لا يمتد تاريخ علاقتنا بها طويلا نرى أنفسنا آخرَ نجده غالبا مختلفا عن تصورنا له، نتعود عبر المرايا على رؤية أنفسنا كآخر نتعاطف معه ونحبه ونحاول إصلاح عيوب هيئته ومزاجه.
في المرايا نكون الرائي والمرئي دون انطباع الآخر وعيونه بل انطباعنا نحن عن صورنا وحالتنا التي قد لا نتقبلها بل قد لا نجد صورتنا التي رسمناها لأنفسنا فيها وقد نجد صورة لا نعرفها لأنفسنا ونشك أن من في المرايا نحن ولكننا حتما سنعود ونتأكد أننا نحن من يقابلنا في المرايا بكل ما فيه.
العلاقة بالمرايا ترسم إلى حد كبير علاقتنا بفنوننا وآدابنا التي قد ننكر صورتنا فيها ولكننا سندرك ولو بعد حين أنها صورتنا وأننا هكذا، بكل ما يظهر فيها وبكل ما ننكر. صور لنا وتخصنا جدا.