Atwasat

الفلسفة في بنغازي (5)

سالم الكبتي الأربعاء 15 نوفمبر 2023, 12:24 مساء
سالم الكبتي

في العامين الجامعيين 1968-1969 وجد بدوي كثيرا من الطلاب في قسم الفلسفة والاجتماع الذين اقتربوا منه رغم صعوبة تكوين علاقة معه. كان طبعه قاسيا وحادا. وجد أمامه مجموعة منهم ومن الأساتذة بالقسم يتولون إصدار نشرة على الآلة الساحبة باسم قورينا. أشرف عليها د. علي أحمد عيسى ثم الأستاذان علي فهمي خشيم وشعيب المنصوري. كان يتولى طباعتها أحد موظفي الكلية وهو عطية مفتاح حسين. لم يقترب بدوي من هذا النشاط أو يشجعه أو يدلِ بدلوه فيه. في مرحلة لاحقة لفت النشاط رئيس الجامعة عبد المولى دغمان.

كان هناك طالب قادم من حي خريبيش نال الثانوية وكافح من أجل أسرته في ورشة للنجارة في ورشة اليدري المطلة على بحر الصابري. رجب بودبوس. خصص له رئيس الجامعة مكافأة نظير نشاطه الفكري اللافت للنظر في تلك الأيام وأمر بطبع قورينا في بيروت. ظلت تصدر شهريا. بدوي انصرف إلى محاضراته وإشرافه على تحرير مجلة الكلية إضافة إلى سكرتارية مجلس الكلية. بودبوس حين وصل بدوي إلى بنغازي كان في سنته الدراسية الثالثة. حاوره واستفاد منه استفادة الطالب العاشق والمنبهر جدا بأستاذه. كان الطلاب يتابعون د. بدوي قبل أن يأتي إلى بنغازي والكلية.

مصادرهم كان أغلبها وأهمها من مؤلفاته وتحقيقاته وترجماته. بدوي أيضا وجد بودبوس مشروعا جاهزا لفيلسوف قد يطلع من الكلية. استهوته قضايا الوجودية والحرية والعدم والفراغ والقلق والتمرد. سارتر وكامو ومؤلفاتهما التي تقذف بها دار الآداب في بيروت على أرصفة بنغازي وكانت مجلة الآداب التي يشرف عليها سهيل إدريس وزوجته عائدة تهتم بقضايا الفكر الوجودي على الدوام. كان سهيل يقارب أن يكون رجل دين في نشأته وتأثر بوالده كثيرا وهو رجل دين أيضا. لكن الوجودية والفكر الوجودي حتمت على سهيل إدريس التغيرات المتواصلة في حياته فترة الخمسينيات والستينيات. درس في باريس. وكانت المجلة تحوي في أعدادها مقالات في تلك الأيام لبدوي ومجاهد عبدالمنعم مجاهد وجورج طرابيشي.. وغيرهما. نجحت المجلة في الدعاية للوجودية من خلال هذه الدراسات والمقالات والإصدارات التي لم تتوقف.

قرأ بودبوس هذا النتاج وتأثر به. نشط في رحاب الكلية. تقدم زملاءه في البرامج الثقافية والمحاضرات وإصدار قورينا التي ظلت صدى قويا لما يعتمل في صدور أولئك الشباب الحيارى. وكان بدوي يكره سارتر في مرحلة ما ويعتبره أنه ليس وجوديا بل أساء لها. مجرد دعاية وأنه لعب على كل الحبال مع اليسار والشيوعيين فترة الحرب العالمية الثانية.

بودبوس اهتم بسيزيف والعدم وانتظار غودو وواصل نشرها أيضا في صحيفة الحقيقة التي اهتمت بطريقة أو أخرى بنتاجه وجرأته وكثيرا ما شكا بعض الشخصيات في المدينة منه ومن نشاطاته وتخريبه لعقول الشباب وفاتحوا رئيس الجامعة في ذلك الذي دافع عنه وأشار إلى أن نشاطه داخل الحرم الجامعي ولا يتجاوزه. فلا قيود على الفكر والحرية. أخبرهم بأن الحل السليم دائما هو النقاش والحوار مباشرة مع هذه القضايا، ومن جهة أخرى بعضهم أنحى باللائمة على أستاذه بدوي. وكان كما أسلفت لأبعاد ثورة الطلاب في مايو 1968 تأثيرات وصلت أيضا بطريقة أو أخرى إلى العقول الباحثة عن الطريق.

الفلسفة هناك ومواقف سارتر وهربرت ماركوز وريجيس دوبريه السجين في أمريكا اللاتينية. وجبهات النضال لتحرير فلسطين. كانت بنغازي تمتليء بالفلسفة دون أن تدري. وثمة إعداد قادم لسفسطة ستحل بالبلاد. في مهزلة العقل البشري يقول د. علي الوردي عالم الاجتماع العراقي الكبير عن السفسطة في هذا الكتاب الذي أصدره في بغداد عام 1956 (أنها كانت فلسفة ذات أهمية اجتماعية لا يستهان بها ومن سوء حظها وحظ البشرية أنها غلبت أو قتلت في مهدها فأصبحت محتقرة والمغلوب محتقر دائما ولذا أخذ المفكرون ينسبون إليها كل نقيصة ويجردونها من المحاسن. إن السفسطة لم تكن خالية من العيوب على أي حال ولكن هذه العيوب يجب أن لا تعمينا عن رؤية نعيشها).

دائما العيوب تعمي الأبصار ولكنها عند البعض تبهرها مع ضوء الشمس في الظهيرة الشديدة. وفي تلك الأيام أيضا برز شاب من بنغازي في الجانب الآخر. لم تتطابق أفكاره مع الفلسفة. الصادق النيهوم الذي ظل يهتف.. (كلما فتح الله بابا للإنسان أقامت الفلسفة أمامه زنزانة!) وسيشغل أيضا الكثيرين، إلى وفاته بعدها في الخامس عشر من نوفمبر 1994. وفي اليوم السادس عشر تظل الدنيا تحتفي باليوم العالمي للتفلسف أو الفلسفة. أضحى للفلسفة عيد وبهجة على امتداد العالم!!