Atwasat

لندن الشعبية لا تتخلى عن تاريخها

جمعة بوكليب الأربعاء 15 نوفمبر 2023, 09:50 صباحا
جمعة بوكليب

هدنة وقف إطلاق النار في الحرب العالمية الأولى أُعلنت في الساعة الحادية عشرة، في اليوم الحادي عشر، من الشهر الحادي عشر، من العام 1918. الهدنة كانت بياناً من الدول المتورطة في الحرب، بوقف العمليات الحربية. وفي الحقيقة، فإن الحرب استمرت في عدة مناطق وبلدان أخرى، ولم ينته القتل والتدمير والتهجير، إلا بعد ذلك التاريخ بثلاث سنوات تقريباً.

وفي يوم السبت الماضي، الموافق الحادي عشر، من الشهر الحادي عشر، من العام 2023، أحيت بريطانيا تلك الذكرى. عند تمام الساعة الحادية عشرة، وقف البريطانيون، كما فعلوا في السنوات السابقة دقيقتي صمت.
تلك اللحظة تحديداً، كنت واقفاً في سوبر ماركت أتهيأ لدفع ثمن مشترياتي، حين فجأة وقف مُحصّل النقود من مقعده. مددت إليه بالمبلغ المطلوب نقداً، فأشار إليَّ بالصمت. عندئذ، أدركت أنني وبحسن نية، «عفست في القصعة». لكني تفاديت الإحراج سريعاً، وانضممت إلى غيري من المتسوقين والعاملين ملتزماً مثلهم الوقوف في صمت، احتراماً لكل الذين التهمتهم نيران الحروب في شتى بقاع العالم تحت مختلف الرايات والشعارات.

ما يميز إحياء ذكرى الهدنة هذا العام في لندن، تحوّلها إلى حرب سياسية وإعلامية ضارية، بسبب تباين المواقف من حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة، وأدت إلى خلق حالة من الانقسام الهائل بين مختلف فئات المجتمع البريطاني، بين مؤيد لإسرائيل وحقها في الوجود والدفاع عن نفسها، ومؤيد للشعب الفلسطيني وحقه في الوجود، والتخلص من الاحتلال.

خلال الأسابيع الخمسة الماضية، صارت شوارع وميادين العاصمة البريطانية، في أيام السبت من كل أسبوع، نقطة استقطاب وملتقى للآلاف من سكان العاصمة وغيرهم من سكان المدن الأخرى، للتعبير عن مشاعرهم المتضامنة مع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، ومطالبة إسرائيل بوقف العمليات الحربية في قطاع غزة. تلك المظاهرات الاحتجاجية الشعبية شكلت ظاهرة لم تقتصر على لندن؛ بل شملت العديد من عواصم العالم عموماً. لعل أكثرها مدعاة للفت الاهتمام التي تلك شهدتها واشنطن دي سي، ونيويورك.

لن نخوض في التصريحات العدائية التي أطلقتها وزيرة الداخلية البريطانية سويللا بريفرمان، ولا المقالة التي نشرتها في الأسبوع الماضي في جريدة التايمز، متهمة شرطة العاصمة بالتحيز ضد مظاهرات اليمين المتطرف، وبالتساهل مع متظاهري اليسار، وما أثارته من ردود أفعال شديدة وغاضبة في دوائر حزب المحافظين وخارجه. ونفضّل أن نترك ذلك لمقالة أخرى مستقبلاً. والسبب، هو أننا توخينا تسليط الأضواء على التظاهرات الشعبية في مدينة لندن خصوصاً، المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في الحرية، كونها استفزت الحكومة إلى أبعد حد. كما أثارت نقمة وسائل الإعلام اليمينية.

مظاهرات الاحتجاج عموماً، والسياسية خصوصاً، ليست غريبة على مدينة لندن. والذين يتابعون ما يحدث من أحداث سياسية في العالم، يتذكرون من دون شك، ردود أفعال لندن نحوها، إيجاباً وسلباً. فللمدينة تاريخها، وتقاليدها السياسية. وميادينها وشوارعها عرفت كل أنواع التظاهرات والاحتجاجات على اختلافها. ولعلنا لا ننسى الملايين الذين غصّت بهم شوارعها، رفضاً للتدخل العسكري البريطاني في العراق.

وفي الحرب الدائرة في غزة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي، لم تتأخر لندن عن الاستجابة. خلال الأسابيع الخمسة الماضية، شهدت خمس مظاهرات احتجاج غاضبة، واحتشد عشرات الآلاف من اللنديين وغيرهم في الميادين، يهتفون بحرية فلسطين، ويطالبون بوقف حرب الإبادة الموجهة ضدهم. ومما لا شك فيه أن السوشيال ميديا أسهمت إلى حد كبير، بما تنقله من مشاهد، أولاً بأول، من مراكز الحدث في غزة، في توسيع دوائر الاهتمام بين مختلف فئات الشعب البريطاني، بما يحدث في تلك البقعة الجغرافية المنسية طوال أزيد من نصف قرن، ويعيش سكانها في ظروف لا إنسانية، تحت هول احتلال استيطاني متوحش، ومدعوم من أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم.

موقف الحكومة البريطانية وأحزاب المعارضة كان داعماً لإسرائيل بلا حدود. ورئيس الحكومة ريشي سوناك قام بزيارة إلى إسرائيل للتعبير عن موقف بريطانيا الداعم لإسرائيل، وحقها في الدفاع عن نفسها. وفي الجهة المقابلة للموقف الرسمي، كان يبرز شامخاً ومميزاً الموقف الشعبي ومن جميع الفئات السكانية تقريباً.

ومن دون شك، كان الوجود العربي والإسلامي بينهم واضحاً. وكما هو متوقع، تسللت إلى تلك الآلاف والعشرات من الفئات الإسلاموية المتطرفة، وبروح انتهازية، على أمل الترويج الدعائي، متيحة الفرص أمام الإعلام المؤيد لإسرائيل للنيل من المتظاهرين ومطالبهم.

التيار اليساري البريطاني كان من نظم ونسق تلك التظاهرات، وتحت قياداته القديمة، أو ما تبقى منهم حيّاً، وفي مقدمتهم الزعيم السابق لحزب العمال جيريمي كوربين. ولم يغب عنها قادة وكوادر الحزب العمالي الاشتراكي البريطاني، وهم بقايا الحزب الشيوعي سابقاً.

اللافت أيضاً، أن العديد من الكتاب والمثقفين البريطانيين كانوا من المشاركين في تلك التظاهرات، كما شارك فيها البعض من أبناء الجالية اليهودية في بريطانيا. وباختصار، جمعت التظاهرات خليطاً سياسياً وسكانياً مثيراً للفضول. الهدف الذي وحّدهم معاً، كان التنديد بالظلم، وإدانة مجازر القتل والإبادة، التي تنقل حيّة على القنوات التلفزية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، في خرق واضح لكل القوانين والتقاليد والأعراف ذات الصلة بالحرب، ولمواثيق حقوق الإنسان.