Atwasat

شرفة مطلة على الأرض الخراب

سالم العوكلي الثلاثاء 14 نوفمبر 2023, 02:58 مساء
سالم العوكلي

«بين العامين 1918 و1923، خلال تلك السنوات الحارة الرهيبة، طوى نظرته إلى الداخل مجتمعٌ مقطع الأوصال، جائع، عاطل عن العمل، غارق في الاضطرابات والفوضى السياسية ومحروم من القدرة على ممارسة أي نشاط خارجي. ولقد طبع الوعي الجواني المشتت ردود الفعل الفنية أكثر من أي وقت مضى. فإذا كان الجسد قد بدا مكبلًا بالأرض فإن الروح عرفت كيف تنطلق. وعلى هذه الشاكلة كان الوضع أيضا أيام شيلر وغوته، حين كان الفن يبدأ كملجأ لإنجاز المثل العليا التي كان يبدو من المستحيل الوصول إليها فوق الأرض. اليوم هاهي الفوضى تصل إلى حدود الحشر، ومعارك الشوارع تختلط بالرؤى الكابوسية»*.

ويعني فردريك أوين بهذا (اليوم) السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، في كتابه عن برتولد بريخت، حيث في هذا الفصل يصف المرحلة التي بدأ فيها بريخت، بعد الحرب العالمية الأولى، يفكك عبر الشعر والمسرح مفاهيم مثل العبث والعدمية واللاجدوى، وتلك المحن التي يصاب بها الفن الحالم حين يجد الشعراء والفنانون، المهووسون بفكرة السلام، أنفسهم في خنادق الحروب مجبرين. وكان السؤال الدارج آنذاك: كيف يمكن أن يتسبب تطور العلم والتكنولوجيا إلى إحداث قدر أكبر من الدمار، والخراب، والعبث الإنساني؟.

بريخت الذي عايش أهوال الحرب الأولى، ثم هرب من النازية التي حرقت كتبه صوب الولايات المتحدة، حوكم العام 1947 في واشنطن، بتهمة قيامه بتصرفات غير أمريكية، وكانت جذور العدمية تستوطن أرض الفن والمسرح خصوصًا الذي اختاره بريخت وسيلة لقول كلمته في الأزمنة الصعبة، وكما يقر فردريك أوين فإن عدمية بريخت تذكرنا بقصيدة «الأرض اليباب» لـ«تي إس إليوت» التي كُتبت في الفترة نفسها، ونعرف جميعا تأثير هذين الرجلين في مزاج الشعر والمسرح العربيين في تفاعلهما مع كل الإخفاقات والإحباطات التي شغلت المنطقة طيلة النصف الثاني من القرن العشرين.

في فحصه لكلا العدميتين اللتين يمكن العثور فيهما على النأي البارد والمحسوب عن التفاؤل الفني الحالم والبلاغة والمهارات الأسلوبية التي اتسم بها الفن قبل ذلك، يستطرد أوين: «ولكن يا للفارق الكبير بينهما! فالأرض الخراب عبارة عن جحيم خاوٍ مسكون بالعفاريت الذين كفوا ومنذ زمن عن الانفعال بالبطولة، سواء بالعاطفة أم بالعمل. عالم بريخت أيضا عبارة عن جحيم لكنه مسكون بالكائنات البشرية. لدى إليوت ليس ثمة أثر لأي شعور تجاه الإنسان اللهم إلا الرغبة في نزع أحشائه، أما لدى بريخت فثمة تعاطف مع البائسين المسحوقين، المغدور بهم والمُبعَدين. إليوت يرى العدم في العدم، أما بريخت فإنه يرى ضحايا العدم».

العام 2006، حين عمم الشاعر التشيلي، لويس أرياس مانثو، مؤسس «حركة شعراء العالم» رسالةً تحت عنوان «شعراء بكل اللغات»، يدعو فيها الشعراءَ ـ على ما أذكر ـ إلى الحيادية تجاه العنف في العالم والدعوة المستمرة إلى السلام، كتبتُ رسالة ردًا على رسالته لم تُنشر ولا أعرف ما إذا وصلت إلى العنوان المذكور أسفل رسالته، أقول فيها: السيد المحترم لويس. أقدر لك هذا الجهد المميز الذي تبذله من أجل جمع شعراء العالم في خندق واحد، وربما لأول مرة في التاريخ وبهذا الإلحاح، وإن كان حلم الشعراء في كل زمان ومكان واحدًا.. حلمهم بأن يسود السلامُ الأرض، لكن هذا الحلم يحمل في جوهره بعدا طوباويًا لا ينأى عن الوهم، أو اليوتوبيا نفسها التي طالما غذت شغف الثوريين الذين سرعان ما تحولوا إلى طغاة. وكم من حروب فتكت بالملايين شعارها من أجل أن يسود السلام الأرض.

لا أخفيك أني أرتعب من اليوتوبيا لأنها وسيلة سهلة لحقن الأخطاء العظيمة بذريعة الحلم ونية الخلاص النهائي، وفي الوقت نفسه تبدو كبساطٍ طائر يفصلنا عن الأرض والواقع وكل ما هو حتمي وفق غرائز البشر الذين من سوء حظه يقودون هذا العالم، وهذا ما أخاف أن يسقط فيه الشعراء أيضًا. سأكون متشائما بحذر، وأقول إن السلام على الأرض يبدو بعيد المنال مادامت مأهولة ببشر مازالوا مسكونين بغرائز التسلط والجشع. وبعقائد لا يأتيها الباطل تقبض على الحقيقة الواحدة وما عداها ضال وعدو.
لقد كان مؤسس جمعية الصليب الأحمر حالمًا مثلنا بالسلام والتعايش ونبذ العنف، لكنه لم يرضخ لهذا الخدر الغنائي، وقرر في لحظة شعرية مفارقة أن يسعى لتخفيف ألم الحروب طالما مازالت قدَرَ هذه الأرض التي تحكَّم الطغاة بكل أنواعهم في مصيرها، ودججوها بأسلحة دمار كافية لأن تقضي على الكوكب والجنس البشري.

المكان سولفرينو في شمال إيطاليا، والزمان 24 يونيو 1859، حين وصل مساءً مثقف وناشط اجتماعي سويسري يدعى: جان هنري دونانت، بعد 16 ساعة، إلى ساحة معركة اشتبك فيها الجيشان، النمساوي والفرنسي، ليجدها مكتظة بأجساد أربعين ألفا بين قتلى وجرحى يئنون وسط بِرَكٍ من الدم في خلاء موحش متروكين لمصيرهم، ومن قلب هذه المذابح انبثقت وقدته الشعرية حين عاد إلى موطنه ونشر كتاب «تذكار سولفرينو»، ووجّه في هذا الكتاب نداءً يدعو لتشكيل جمعيات إغاثة وقت السلم لرعاية جرحى الحروب وأسراها، مع العمل على سن قوانين دولية تحمي هؤلاء المتطوعين لهذه الخدمات الخطرة، ومن هذا التداعي السردي لصدمة مثقف ظهرت «اللجنة الدولية للصليب الأحمر».

توفي دونانت العام 1910 لكن اسمه ظل على رأس اللجنة التي تابعت عملها وفق رؤى كتابه إلى أن وصلت إلى سَنِّ اتفاقيات جنيف الأربع 1949 التي عززت حماية المدنيين في أوقات الحروب وما تبعها من بروتوكولات كانت كلها تسعى لتخفيف مآسي الحروب التي أدرك دونانت أنها لن تنتهي لأمد مجهول. تحصل على أول جائزة للسلام تمنحها لجنة نوبل وهو في مشفاه في مدينة هايدن الذي قضى فيه سنواته الثماني الأخيرة، وقد بعثت له اللجنة الدولية للصليب الأحمر رسالة تقول: «ليس هناك من يستحق هذا الشرف أكثر منك، فأنت الذي أسست منذ أربعين سنة مضت المنظمة الدولية لإغاثة الجرحى في الميدان، ومن دونك لم يكن ممكنًا أن يتحقق ذلك الإنجاز الإنساني الأعظم، الصليب الأحمر».

كان من الممكن أن يكتب دونانت كتابا مختلفا أو شعرًا رومانسيًا يدعو فيه العالم للسلام ويبريء ذمته كأي حالم محترف، لكن صدفة مجيئه إلى شوارع سولفرينو المكتظة بأجساد القتلى والجرحى نقلت رسالته إلى فضاء آخر، قد يقول البعض إنها الواقعية، لكنني لا أوافق تماما، فهذه الوقدة الشعرية؛ التي فكرت في طريقة للعمل الإنساني وسط لهيب ودماء الحروب دون أن تطالب يوما بوقفها، لا يمكن إلا أن أحيلها إلا إلى فضاء سريالي، يجعل من صدمة الواقع لفحة لاقتراح خيالي لم يكن ممكنا التفكير فيه في ذلك الوقت إلا مثلما تفكر في زرع شجرة في فوهة بركان، وما عدت أستغرب جوابي الارتجالي حين سألني مرة شاعر شاب عن أفضل الشعراء في نظري، فقلت له: جان هنري دونانت.

أخاف أن يكون الحديث عن السلام المطلق منفىً اختياريًا لشعراء العالم، وشرفة عالية نتفرج من خلالها على الدماء التي ستسيل مرارا، وكلنا رضا بأننا نكتب حلمنا من أجل الإنسان والسلام، وقد تبعدنا راحة الضمير الهشة عن اتخاذ المواقف المحددة، أو تبعدنا أغنية السلام عن تلمس ملامح الظلم أو تحديد هوية الضحايا. ثمة قوى عمياء تنمو في هذا العالم بكل طموحاتها في السيطرة، قوى ظالمة تفتك بالإنسان وهي تحمل راية الإنسانية، تحشرنا في الملاجيء وهي تتغنى بالديمقراطية، تقصف حفلات الزفاف وفي يدها مشعل الحرية.

عندما اجتاحت أميركا فيتنام، لم يكن منطقيًا أن ندين عنف الطرفين وندعو للسلام، دون أن نحدد الجلاد والضحية، المعتدي والمدافع عن أرضه، والحال نفسها مع الاعتداء الصهيوني على أرض فلسطين وشعبها المكون من كل الديانات، حيث يطالب العالم بوقف العنف المتبادل بين (الطرفين): بين شعب أعزل يدافع عن أشجار زيتونه، وبين محتل فاشٍ جاء من أصقاع الأرض مدججًا بترسانة عسكرية ضخمة، علينا أن ندين النازية التي أحرقت اليهود الُعّزل، والصهيونية التي تفعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين، فالحياد حين يكون إزاء جلاد وضحية أو غاصب ومقاوم هو هروب من شجاعة اتخاذ موقف أخلاقي، ولا يمكن أن نحيله إلى أي درب من مهمة الشعر والشاعر.

لابد أن يكون لشعراء العالم موقف إزاء الحق والعدالة، وعلينا أن نختلف ونتحاور بشأنها دون أن نخسر جوهرها، لكن أطروحة السلام المطلق ستجعلنا متفقين، والاتفاق مكيدة حتى وإن كان في حقل الجمال، وتجعلنا في الوقت نفسه مرتفعين في شرفة مليئة بالورد مطلة على الخراب. أخشى نور اليوتوبيا الساطع أن يعمي عيوننا عن التفاصيل الموجعة في الحياة، وعن تحديد الأزرار التي من المفترض أن تلمسها أصابعنا. علينا أن نفكك هذا القاموس الأخلاقي الذي يجتاح العالم بألعابه اللغوية، حيث تخترع سياقات متلاعبة، تنتهك القيم التي ناضل من أجلها الإنسان على مر التاريخ.

أعود لأحييك من جديد أنت ومن معك في هذا المشروع، آملًا أن يكون اجتماع الشعراء مظاهرة كبرى تفرق بين القبر والدبابة، بين طائرة الشبح وموكب الزفاف، بين حقول القمح وحقول الألغام. مع تحياتي ..
الشاعر/ سالم العوكلي. ليبيا.

*فردريك أوين. برتولت بريخت: حياته، فنه، وعصره. ترجمة إبراهيم العريس.