Atwasat

عالم يصدر أزماته إلى المستقبل!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 نوفمبر 2023, 01:14 مساء
أحمد الفيتوري

كرة الأرض تشيخ وزعماؤها أيضا يشيخون، وتتالى المؤتمرات سواء القمم السياسية منها أو العلمية، لكن تبدو وكأنها في حال حوار الطرشان، وأنها تلتقي لتجتمع على الخلاف، ومن هذا لا تحدث ذلك الصدى، فتقلب كما صفحات الكتاب البيضاء، بعد أن تعجز أحيانا عن إصدار بيان مشترك، لكن التغريدات القاتلة تتواصل قبل هذه وبعدها.

الحقيقة التي تُخفيها الأخبار المتكررة، أن العالم يتغير، لذا فإن العالم في عنق الزجاجة، ومن سيمياء التغير، هذه العلامات الدالة: تكرار المشهد، التعصي والصعوبة، حالة محلك سرّ، التقدم إلى الخلف، الأنظمة الميتة الحية، كل هاته العلامات وغيرها، تؤشر على أن عنق الزجاجة، المرحلة الأخيرة، التي يرقص الماضي فيها، رقصة الديك المذبوح.

وأوضاع العالم تتعقد، مع انهيار القديم دون جديد واضح، الجديد ما لا نتبين، ما يحدث دون أن ندرك، ما تحمله الأخبار اليومية المكررة، وما أُسه أننا نعيش (عالما في عنق زجاجة). فما يحدث في الجزائر، يحدث في العراق، وما في العراق في لبنان، وأمريكا المضطربة، تجُول الرُقعة في حالة سكر، كما فرنسا التي كأنها، تستعيدُ عقد الستينيات من القرن العشرين، حيث تعمها التظاهرات وتغرق في الإضرابات، وغير هذا في العالم، من تفاصيل الحدث الأكبر: القيامة الآن.

العالم هذا، في قلبه أوروبا يسيطر حزب الخوف فتعود الفاشية، ما ولدت فتناسلت عقب الحرب الأوروبية الأولى الكبرى، اليوم تظلل أجواء أوروبا مع الحرب الأوروبية، التي تثيرها النزعة القومية الروسية بزعامة بوتين، من ينزع جنسية الأوكرانيين باستفتاء شعبي، قررت نتائجه قبل القيام به. ومن خلال حركات شعبوية تعم الشعوب الأوروبية، بل وتنجح في الانتخابات، ما يذكر بنجاح النازيين، فاليمين المتطرف دك آخر مستقر لليسار في أوروبا، حيث نجح في إسبانيا بعد فوزه الميمون في إيطاليا، وهذا النجاح باعثه الرعب البضاعة التي تروجها الأزمات، والرعب من المستقبل بدوره يؤجج الرعب من الحاضر.

وقبل لا حاجة بنا لابتياع تذاكر سينما، لمشاهدة أفلام الرعب، فيكفي أن نفتح التلفاز ونشاهد الأخبار، كان هذا تعليق الكاتبة «بريوني جوردون»، حول واقع حال ميديا الغرب منذ سنوات. واليوم زاد الطين بلة، فقد احتشد قطاع كبير من الشعوب الأوروبية، في صعود لا مثيل له لشعبوية كاسحة، دفعت باليمين المتطرف إلى المقدمة في السويد مثلا، مما جعل للزعيم اليميني المتطرف جيمي أوكسون وحزبه، تأثيرًا مباشرًا على السياسة السويدية، ولأول مرة في تاريخ السويد المعاصر. هذا الطور يجيء، وقد استنفدت سرديات كبرى مقارباتها، ما أضحت في قسم التاريخ بالمكتبات وبالمتاحف، مع تطور نوعي ونقلة تكنولوجية لا مثيل لها. وقد أشار الفيلسوف زيغومت باومان، إلى هذه اللحظة باعتبارها الحداثة السائلة، التي تشير إلى المعاناة من الأرق، وكوابيس الخوف من التخلف عن الركب، أو السقوط من نافذة تسير بسرعة فائقة.

الظرف الذي نعيش، يتجلى (ما بين بين)، حيث عالم يحتضر، وعالم يولد مصحوبا بتعسر في الولادة، ولذا ما يموت يُرى، عكس ما يُولد، وفي تقديري أن ذلك، يوضحه مسرود «كارلوس فوينتيس»، من في «كرسي الرئاسة»، سرد صيرورة النهاية، دون إشارة واضحة أو إيماء لبداية ما، وفي هذا نحن كما الكاتب، نعيش نهاية متمثلة في (عالم في عنق الزجاجة).

بغض النظر، عما تؤول إليه، الأحداث المشار إليها وما شابه، فهي جزئية في الأخير، تؤشر وتؤكد أنها حجر في الماء الراكد، ما نتج عن الحرب الكبرى الثانية، عصر الذرة فالرقمية، وكل السرديات الكبرى، هذا العصر ما حدث فيه، مقداره وكثافته تُعادل ما حدث في التاريخ الإنساني الحديث، وقد استنفد عصارته، فأصابه الوهن وشاخ.

وهذا أُس ما فيه العالم اليوم، ما يعيش سكرات الموت، وما لم ولن يدرك ما يستجد، بقدر ما يلاحظ في سنواته الأخيرة، الماضية القريبة، من ثورات وأحداث كبرى، وعجز عن التكيف مع ما يحدث، فما يحدث أعظم من أن يدرك، من قِبل من يعيشه. وفي هذه اللحظة الاستثنائية المليئة بالتناقضات يرتبك النهج، ما يصيب عقولنا بالوهن، التي كل ما تفكرت فيه يستعصي عليها. في هذه اللحظة الاستثنائية، التي قد تكون أول لحظة بشرية شاملة تجتاح كل مكان، وتضرب كل بشرى مهما تضاءل شأنه، وتهدد المستقبل الآن وهنا بتغريدات قاتلة، ليس بإمكان أحد تفاديها.

فلسطين في هكذا عالم، مؤشر قاطع، على أن أمريكا والغرب، في هذه المرحلة، قادران فقط على تأجيج الأزمات بعد خلقها، وأنهما عاجزان في المحصلة، ما ينتج عنه تصدير كل أزمة مختنقة إلى المستقبل، بعد خوض حرب ضروس لقهر أية مقاومة حاضرة.