Atwasat

دعوة إلى الفلسفة والتفلسف

سرتية العاتي الجمعة 10 نوفمبر 2023, 02:20 مساء
سرتية العاتي

نحتفل في هذا الشهر باليوم العالمي للفلسفة، الموافق 16 نوفمبر 2023، وذلك لتأكيد أن الفلسفة هي الحياة والشغف والمحاكاة والتأمل والتخيل، بل هي الدهشة التي تقودك إلى البحث عن كنه الأشياء، لتصل إلى مرادك.

في هذا اليوم ندعو الجميع إلى التفلسف.. إلى التأمل.. إلى الخلوة مع الذات وللذات، لأن التفلسف ضرورة ملحة للحياة، لأنه يضفي ألوان قوس قزح على التفكير البشري، فيزوده بألوان عديدة مثل التفكير الاستنباطي – الاستقرائي – الناقد – الاستدلالي.. إلخ، فالفلسفة للجميع، وبالجميع ترقى الأمم، فمن منا لا يمارس الفلسفة والتفلسف في حياته اليومية، فعندما تطلق عنان التفكير، لتحل مشكلة أرهقت تفكيرك، وتحاول ترتيب أفكارك وتحدد الأولويات، وتقول: دعوني وشأني، وتخلو مع نفسك، فأنت هنا تتفلسف. وإطلاقا لا يعني التفلسف الثرثرة وكثرة الكلام أو ضربا من العبث والخيال، فقد تكون صامتا متأملا سارحا بفكرك، وتأتي بالمفيد والجديد.

فالتفلسف فعل حقيقي أصيل ومنظم يحاول الإنسان من خلاله – في مستويات مختلفة – فهم ذاته وفهم العالم المحيط به، فهو إذن ذلك النشاط العقلي الواعي الذي يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع، ومعنى التجربة الإنسانية.

إن محاولة الفرد فهم ذاته والعالم الذي يعيش فيه نزعة متأصلة في الإنسان بما أنه إنسان، فحتى الطفل الصغير يمتلك ذلك الميل إلى التفلسف، وهناك الكثير من الأطفال من يسألون أهاليهم أسئلة لا يجدون لها إجابة، فقد يسأل الطفل مثلا: لمَ تعيش الأسماك في البحر؟ لماذا يوجد لنا عينان اثنتان وأنف واحد؟، وإذا كان لنا عينان، فلمَ لا نرى العالم مقسوما قسمين؟، فسؤاله يحمل عنصرا وجوديا، ويحاولون بعض الأهالي قمع أطفالهم بنهيهم عن توجيه أسئلة كهذه، وهم بذلك يقتلون كنه التفكير الفلسفي لديهم، وليس هذا فقط، بل نجد المجتمع برمته يميل إلى قمع السؤال الفلسفي الذى يقود إلى الحقيقة وحل المشكلات، فما نشهده من مظاهر التسلط والقمع في مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية العربية مثلا أسهم بشكل كبير في تدني حال الفلسفة،

وعزوف الطلبة عن ارتياد أقسام الفلسفة، كونها محض هراء، الأمر الذي أسهم في ضمور فعل التفلسف، متناسين أن التفلسف ابن الحرية، فازدهار الفلسفة قديما في أثينا الديمقراطية وغيابها في إسبرطة العسكرية خير دليل على ذلك.

لذلك، حث أرسطو على التفلسف، لأنه متعة عقلية، وهو السبيل إلى سعادة الإنسان التي لا تقوم إلا على فاعلية العقل من خلال التأمل والتدبر والتفكير، وغيرها.
ووفق رؤية تنويرية عميقة، دعا كانط أيضا إلى ضرورة تعلم ممارسة التفلسف والتفكير الذاتي، والتجرؤ على استعمال العقل بدلا من الغوص والإبحار في تعلم تاريخ المذاهب الفلسفية المتنوعة التي لا تمنحنا إلا نمطا من التفكير الميكانيكي.

إن فعل التفلسف ثمرة عظيمة منحها الله -عز وجل- للإنسان، وميزه بها عن باقي المخلوقات، وذلك لسبر الأغوار، والوصول إلى حقائق الأشياء، فرسولنا محمد -عليه أفضل الصلوات والسلام- أخذ من التأمل والعزلة الإيمانية مع الذات في غار حراء سبيلا للتفكير والتدبُّر في كينونة الأشياء، وهو منحه إيمانا بوجود إله واحد خلق هذا الكون، فنزلت عليه أول سورة وهو يتعبد في غار حراء تحث على القراءة، إذ قال تعالى: «اقرأ باسم ربك الذى خلق»؛ ليفتح بذلك أبواب العلم وآفاق المعرفة لأمَّة أميَّة، ويضع لها بذلك منهجا متكاملا للقراءة والنظر والتفكُّر، ليس فقط في كتابه المسطور، وهو القرآن، وإنما في كتابه المنظور أيضا، وهو الكون المتمثِّل في كل ذرة من ذرات الخليقة، وهو ما لا يناله إلا المجاهد في سبيل كشف والوصول إلى الحقيقة، متخذا من التفلسف نهجا له، وهو ما أدركه ديكارت بقوله: «إنما تقاس حضارة الأمم بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها».

لذلك، فإن أجلَّ نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هي أن يمنحه فلاسفة حقيقيين يبحثون في كينونة وماهية الأشياء، للوصول إلى حقائق الأمور.