Atwasat

جدلية الحبس والإبداع

منصور بوشناف الخميس 09 نوفمبر 2023, 03:34 مساء
منصور بوشناف

منذ منتصف سبعينيات وطوال ثمانينيات القرن الماضي شهدت ليبيا حملة اعتقالات واسعة وشرسة، تلك الحملة لم تكن ضد انقلابيين ولا قادة ثورة ولا حزبيين معارضين، بل كانت وبالدرجة الأولى ضد شعراء وكتاب قصة ومسرح ونقاد أدب. لم تكن ضد منظرين عقائديين مثلا، كانت وببساطة تامة ضد من يعبرون عن أنفسهم ويكتبون أحاسيسهم ورؤاهم شعرا ونثرا، كانت ضد ورثة رجب بوحويش ورفيق المهدوي وسيدي قنانه وأحمد الشارف، كانت ضد الحالمين بالجمال والعدل والحرية، ضد منشئي قصيدة جديدة وقصة جديدة، كانت ضد صياغة الحلم على نحو مختلف.

تلك الحملة الطويلة والشرسة أقحمت الأدب الليبي في معركة «الإبداع والقيد» في «جدلية الحبس والإبداع» كما تعنونها الدكتورة «أمينة هدريز» في دراستها الحاملة لهذا العنوان.

في هذه الدراسة والتي كانت لنيل درجة الدكتوراه، تلج الباحثة الليبية أمينة هدريز فضاءً ظل مغلقا وبعيدا عن غالبية المهتمين بالأدب الليبي، أعني السجن وآداب السجن، فلقد كان من الصعب القيام بعمل نقدي كهذا نظرا لعدم توافر مناخ وظروف ومتطلبات إنجاز هكذا دراسات، فإنتاج السجناء الليبيين الثقافي ظل في صندوق الممنوعات ولا يمكن فتحه ومعرفة ما بداخله، وحتى من تمكن من الوصول إلى بعض تلك النتاجات لم يكن بإمكانه القيام بدراسته أو نشر دراسته إن أنجزها.

الباحثة أمينة هدريز، ولظروف خاصة، تمكنت من الاطلاع على غالبية إنتاج السجون الليبية الأدبي وامتلكت الجرأة وسعة الصدر والاجتهاد لجمع الكثير منه ليكون مشروعها النقدي الأهم في مسيرتها الثقافية والعلمية.

في هذه الدراسة الموسعة والمنهجية بالتأكيد تتناول الباحثة إنتاج سجناء الرأي الليبيين في الشعر والقصة القصيرة والمسرحية والتي كتبت بالسجون الليبية في الفترة الممتدة من العام 1973م حتى العام 1987م.

قد لا يتوقع القارئ لإنتاج السجناء الأدبي أن يجد بهذا الإنتاج إلا الأدب السياسي وشعارات الوطنية والنضال، لا ينتظر منه إلا الشعارات الكبيرة والتمرد والتغني بالحرية في معانيها الكبيرة، ولكنه وفي هذا الإنتاج الليبي سيجد الإنسان أولا بكل بساطته، بكل عنفوانه وضعفه، بكل أحلامه وكوابيسه، بكل بطولته وطفولته أيضا.

الباحثة أمينة هدريز رصدت كل هذا، قرأته وحللته وأوَّلت محمولاته ودلالاته عبر هذه الدراسة المنهجية الوافية، فدرست السجون الليبية كأمكنة والسجون السياسية الليبية كأمكنة حجز لحرية الإبداع وتحدي الإنسان بإبداعه لتلك الجدران وتلك المحرمات مؤكدة ذلك بتناول بعض إنتاجات تلك السجون الأدبية وما فيها من تميز وإبداع.

يأخذ الشعر نصيب الأسد كما يقال في هذه الدراسة وذلك لأن الشعر يعتبر الأكثر قدرة على التدفق رغم جدران السجون، فهو الفن الذي لا يحتاج لورق كثير للكتابة ولقلم واحد لكتابة الكثير من القصائد، عكس الفنون الأخرى كالقصة والرواية والمسرحية وما تتطلبه من إمكانات للكتابة، بل إن القصيدة يمكن أن تقال وتحفظ عن ظهر قلب دونما حاجة للتدوين، لذا تميز إنتاج شعراء السجون الليبية بالغزارة والتفرد، تجربة محمد الشلطامي والسنوسي حبيب ومحمد الفقيه صالح وعبدالرحمن الشرع وإدريس بن الطيب وراشد الزبير السنوسي وأحمد بللو وعبدالفتاح البشتي..

ورثة سيدي قنانه ورجب بوحويش في المعتقلات الليبية كان أبرزهم عبدالعاطي خنفر والمبروك الزول بقصائد قالت شعرا شعبيا جديدا.
القصة القصيرة تشكل تجربة مهمة في أدب السجون الليبية وأعتقد أن أهم إنتاج القصة القصيرة الليبية من جيل السبعينيات من القرن الماضي أنتجه سجناء داخل سجونهم، تكفي الإشارة إلى تجربة عمر الككلي وجمعة بوكليب وعبد السلام شهاب وفتحي نصيب وما تميزت به تجاربهم من تجدد وحيوية رغم الأقبية.

مسرحيات كتبت بالسجون الليبية ومنها مسرحيتان أنا من كتبهما بسجني الكويفية بنغازي والحصان الأسود طرابلس تناولتهما الباحثة بالدراسة أيضا.

أحمد الفيتوري كان رائد صحافة الأقبية وناقد أدب السجون من داخلها.
هذه الدراسة لا تقدم تاريخا لأدب السجون في ليبيا فقط بل تقدم دراسة تحليلية وافية لبعض تلك الأعمال الأدبية، مستخدمة مناهج البحث العلمي دون أن تهمل جانبا من هذه الأعمال، سواء أماكن كتابتها «السجون» وأغراضها وحتى مناسبات كتابتها أحيانا والظروف التي كتبت فيها، ثم حللت مضامين تلك الأعمال وما كانت تشي به وما تبعثه من رسائل لقارئ افتراضي أثناء كتابتها، وأيضا تحليل دلالاتها وما تختزله تلك الدلالات من تواريخ ومعانٍ لتقدم لنا صورة ممتازة تعمرها تفاصيل «الحبس والإبداع» وتلك الملحمة التي كتبها سجناء محرومون من أهم ركائز الإبداع «الحرية».

عبر هذه الرسالة نحن نقرأ تفاصيل ملحمة «بروميثيوس» الليبي طليقا رغم قيده وجدران سجنه.