Atwasat

(معلِش) وائل الدحدوح صارت شعارا للصمود

إبراهيم حميدان الخميس 02 نوفمبر 2023, 05:36 مساء
إبراهيم حميدان

عدد كبير من الناس تابعوا على الشاشات ذلك المشهد المؤلم للصحفي الفلسطيني "وائل الدحدوح" المراسل الحربي لقناة الجزيرة وهو يجثو على ركبتيه، يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، ويتأمل بعينين دامعتين جثامين أفراد أسرته الذين قتلتهم إسرائيل: زوجته وابنه وابنته وحفيده، في قصف استهدف منزلا نزحوا إليه وسط قطاع غزة في منطقة سبق أن طلب الاحتلال من الفلسطينيين المدنيين التوجه إليها بدعوى تجنيبهم القصف، فإذا به يقصفهم هناك. فقال "الدحدوح" عبارته التي راحت تتردد مئات المرات على وسائل التواصل الاجتماعي: "بينتقموا منا في الولاد؟... معليش" عبارة اختزلت مأساة الفلسطينين في غزة، طرقت آذان ملايين العرب، وتابع معانيها ملايين الأجانب على الشاشات التلفزية حين شاهدوا مندوب فلسطين في الأمم المتحدة وهو يُترجم معانيها باللغة الانجليزية لمندوبي دول العالم على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان من بين ما ذكره في ترجمته تلك: "تبا لكل من يُبرّر للقاتل أفعاله بدلا من أن يقف إلى جانب الضحية".

بعد أقل من 24 ساعة على حادثة استشهاد عائلته، عاد "وائل الدحدوح" يقف مجددا أمام كاميرا الجزيرة ليواصل التغطية الإخبارية للعدوان الإسرائيلي على غزة. عَبّر الكثيرون عن ذهولهم من صلابته ورباطة جأشه وقوة إرادته، وقدرته على أن ينهض ثانية وعلى هذا النحو السريع، معلنا رفضه التخلي عن القيام بواجبه كمراسل حربي، ليُجسّد صورة الصحفي الشجاع الذي يأبى أن تُثنيه مأساته العائلية عن القيام بدوره في تقديم مأساة شعبه، وتعرية الجرائم التي تقترفها قوات العدو يوميا، فتتجلى أمام الملايين أسطورة هذا الشعب المقاوم، الذي يرفض أن يموت على يد قوات الاحتلال، ويواصل النضال منذ عشرات السنين، جيلا بعد جيل، دفاعا عن حقه في الحياة بحرية وكرامة فوق أرضه.

مراسل الجزيرة "الدحدوح" كان شاهدا على جرائم الاحتلال، يُوثّقها صوتا وصورة، وينقلها إلى الملايين الذين يتابعونه على الشاشة وهو يرتدي زي الصحافة الحربية، يرونه واقفا بين الأنقاض، وخلفه غارات وصواريخ، يكشف للعالم ما تَتعمّد أن تتجاهله كاميرات وميكرفونات شاشات أمريكية وغربية عريقة تَبنّت السردية الإسرائيلية حول هجوم حماس في السابع من أكتوبر على مايسمى غلاف غزة، ولم يقتصر ذلك التّبنّي على نزع السياق عن ذلك الهجوم واعتباره هجوما إرهابيا مدفوعا بمعاداة السامية فقط، بل تَبنّت أيضا ما اعتبرته تلك المنابر الإعلامية الأمريكية والغربية العريقة وحكوماتها التي تمثل "العالم الحر" حق إسرائيل في الرد، ما أعطاها الضوء الأخضر في هجومها الوحشي على غزة، فراحت تدك المباني والبيوت على ساكنيها من أطفال ونساء، ولم تتردد في قصف المستشفيات وقصف المناطق التي دعت السكان الفلسطينيين إلى أن ينزحوا إليها لأنها مناطق آمنة، كما جرى مع عائلة "الدحدوح" التي تبين أنها كانت تستهدفها في محاولة لترهيبه وإسكاته، ولهذا جاءت كلمته "معلش" وقد تغير معناها من معنى التسليم بعدم القدرة على فعل شئ إلى معنى التصميم على الاستمرار، صارت تعني "لن ينتصروا علينا"، صارت شعارا للصمود، شعارا لكل فلسطيني في غزة، وفي كامل مناطق فلسطين، مُصمّم على البقاء في أرضه ومقاومة محاولات اقتلاعه منها.

عائلة "وائل الدحدوح" ليست العائلة الأولى ولن تكون الأخيرة ضمن مخطط إسرائيل في استهداف الصحفيين الفلسطينيين الذين ينقلون بالصوت والصورة جرائمها، من أجل ترويعهم وإسكات أصواتهم، ومنعهم من نقل الحقيقة عبر الضغط عليهم وتخويفهم باستهداف عائلاتهم وخنقهم بمشاعر الحزن والإحباط لإجبارهم على التوقف عن القيام بواجبهم المهني تجاه شعبهم الذي يتعرض للإبادة.

نقابة الصحفيين الفلسطينيين في بيانها الذي ندّدت فيه بهذه الجريمة، أشارت إلى هجمات قوات الاحتلال التي طالت منازل الصحفيين في مناطق بشمال ووسط قطاع غزة، باستهداف الصحفيين وعائلاتهم، ووصفتها بالجرائم المستمرة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء الشعب وبحق الصحفيين، وكانت النقابة قد وثّقت مقتل 26 صحفيا منذ السابع من أكتوبر الماضي، كان آخرهم الصحفية "دعاء شرف" مع طفلها. سلاح الصحفي كاميرا وميكرفون، لكن صوره تفضح جرائم المحتلين أمام العالم، ولذا يستهدفونه بالقتل.
ورغم ذلك كله فإن هذه الجرائم في حق الصحفيين الفلسطينيين لم تُثنِهم عن الاستمرار في أداء واجبهم الصحفي بكل مهنية ونقل حقيقة مايجري على الأرض إلى العالم، هؤلاء الصحفيون يعملون مع وسائل إعلام محلية وعربية وأجنبية، في ظروف غاية في الصعوبة، مُعرّضين أنفسهم للخطر، ولعلنا نذكر جميعا "شيرين ابوعاقلة" مراسلة الجزيرة التي قتلتها قوات الاحتلال الصهيوني حين كانت تغطي هجوما عسكريا إسرئيليا على مخيم جنين شمال الضفة الغربية، ورغم الضجة العالمية التي رافقت مقتلها إلا أن هذا لم يثنِ قوات الاحتلال عن الاستمرار في استهداف الصحفيين الفلسطينيين وعائلاتهم.

ومع تدفق الصور التي نقلها الصحفيون للمجازر التي اقترفتها قوات الاحتلال، وراح ضحيتها، وفقا لوزارة الصحة الفلسطينية، حتى الثلاثاء الماضي 8525 شخصا، منهم 3542 طفلا وصور الدمار في المباني، وانكشاف الستار عن الجرائم الإسرائيلية التي ساهمت في إعادة نشر صورها وفيديوهاتها وسائل التواصل الاجتماعي رغم المحاولات الإسرائيلية للتضييق الذي يتعرض له المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، خرجت الجماهير في المدن والعواصم العربية، إضافة إلى مسيرات وتظاهرات حاشدة في مدن العالم المختلفة تنديداً بعمليات القصف والتقتيل الإسرائيلي، رافضة صمت العالم عن هول الكارثة الإنسانية في غزة، ما اعتبره العديد من المراقبين بداية تحول في الرأي العام العالمي عموما، وعلى نحو خاص تحول في الرأي العام الغربي الذي طالما ظل أسير الرواية الإسرائيلية القائمة على تزييف الحقائق، صارت الشوارع في عواصم ومدن مثل لندن وليون ومرسيليا وباريس ونيويرك وواشنطن ومدريد وغيرها من المدن والعواصم تكتظ بالحشود البشرية المندّدة بعمليات القصف الوحشي لسكان غزة، وصارت الكوفية والعلم الفلسطيني حاضرين بقوة في تلك المدن والعواصم، ورغم قرارات منع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا إلا أن هذا لم يمنع من خروج مسيرات وتجمعات تضم عشرات الآلاف من الأشخاص يُسمّع فيها ماهو ممنوع في وسائل إعلامها التي ترفع شعار حرية الرأي، ذلك الشعار تبين زيفه خلال اختبار الحرب على غزة.

هذا التحول الجديد في الرأي العام الغربي صار يتنامى ويتصاعد يوما بعد يوم، ويمكن القول أن إسرائيل بدأت تخسر معركة الصورة التي روّجت لها حين راحت تردد أنها تخوض معركة الحضارة ضد الإرهاب، لم يعد ممكنا استمرار الكذب والتزييف في زمن السماوات المفتوحة، ولعل المظاهرات الاحتجاجية المتواصلة هذه الأيام ضد إسرائيل في المدن والعواصم الغربية خير دليل على ذلك، والشعارات المنددة بإسرائيل في هذه المظاهرات تعكس الفجوة بين الرأي العام الغربي وحكوماته المنحازة إلى إسرائيل، ولايمكن لهذه الحكومات أن تستمر في تجاهل شعوبها الرافضة لهذا الانحياز، إذ لابد لها من أن تنصت لهذه الاحتجاجات وتستجيب لها. المعركة مع إسرائيل على جبهة الرأي العام الغربي طويلة وشاقة، لكنها صارت تميل إلى جانب القضية الفلسطينية العادلة. فقد مضى زمن اكذب اكذب حتى يصدقك الناس.