Atwasat

حين تكون شبهة الإرهاب تفويضًا بالإبادة

سالم العوكلي الثلاثاء 31 أكتوبر 2023, 12:39 مساء
سالم العوكلي

«من غير المقبول لأي شخص إنكار معاداة السامية والتجربة الرهيبة للهولوكوست، نحن لا نريد طمس أو عدم توثيق المعاناة البشرية لأي أحد لكن في الوقت نفسه هناك فرق كبير بين الاعتراف بالمعاناة اليهودية وبين استخدامها لتغطية معاناة شعب آخر». إدوارد سعيد.

مازالت تهمة الإرهاب الوصفة المثالية والرخصة الدولية التي تسمح ـ دون الحاجة لتفويض دولي أو خوف من عواقب قانونية ـ بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ومن أجلها تُحشد التحالفات الدولية في أي بقعة من العالم كي تطيح بالمدن فوق رؤوس سكانها، ما يذكرنا بالزمن الذي كانت فيه الشيوعية التهمة الجاهزة لارتكاب المجازر وحروب الإبادة ضد شعوب احترقت في نار الحرب الباردة، كما تذكرنا بسنوات المكارثية التي كانت كمحاكم التفتيش، تلاحق كل مشبوه برأي مخالف، وكانت ملاحقات مكتب التحقيقات الفدرالي المرعبة؛ التي وضعت الكثير من المنظمات المدنية والمثقفين في قائمة المراقبة والملاحقة، وراء نزوح العديد من الكُتّاب والفنانين إلى المنافي، مثل آرثر ميلر ونورمان ميلر وهمنجواي وشابلن، وغيرهم ممن لوحقوا بتهمة التعاطف مع الشيوعية بناء على تأويلات أمنية لمشاهد مسرحية أو عبارات وردت في دراما كوميدية أو حتى إيماءة لشابلن فسرت أنها تنحاز للفقراء أو المشردين، أو بسبب احتجاج على حرب الإبادة في فيتنام، مثلما يتهم الآن كل محتج على حرب الإبادة في غزة بالتعاطف مع الإرهاب.

بغض النظر عن وضع حماس والجهاد الإسلامي، أو تصنيفهما من قبل القوى الغربية كمنظمات إرهابية، فإن هذه التهمة المرنة والواسعة الطيف لم تقتصر على مسلحين أو متدينين، بل طالت مفكرين وشعراء ومثقفين انبروا لجدال معرفي حول العنصرية، أو الإقصاء والتهميش، أو الأحكام المسبقة التي تضع أممًا بأسرها في خانة الشر المطلق.

وللمفارقة سيطلق بقايا المكارثيين في الولايات المتحدة واليمين الصهيوني صفة الإرهابي على إدوارد سعيد وعزمي بشارة ومحمود درويش وسميح القاسم، وغيرهم من مثقفي اليسار الذين اختاروا سبيل السلام والتعايش بدل الصراع والكراهية، ولا أحد منهم كان لاساميًا أو معاديًا للسامية، بل كانوا ناقدين للفاشية، الفاشية بكل أنواعها، وكانوا جميعا مؤمنين بإمكانية التعايش في أرض فلسطين حين يكف الساسة عن ضخ الخرافات في أذهان المتعصبين، وحين يكون الحوار الطريقة الوحيدة لإدارة الصراع.

بفكره الحيوي والناقد، حلل إدوارد ذهنية الغرب والمركزية الأوروبية في تعاملها الفوقي مع الآخر المختلف، وتلك الصورة النمطية التي رسمها بعض المستشرقين عن الشرق المتوحش مازالت تتوارثها مخيلة الأجيال بعد أن تولت السينما وحتى كارتون الأطفال تكريسها في الأذهان، بما يرسخ صورة الشرقيين ككائنات قادمة من كوكب آخر لتدمير «العالم الحر» ومستقبل البشرية كما تعرضها غالبًا سينما هوليود. وما حذر منه سعيد نراه الآن بوضوح فيما يسميه المحللون (الكيل بمكيالين) حيث وِفْق هذا التصور للآخر وتلك الصورة المنمطة التي نسجت من خرافات، لا يرف جفن أو يستيقظ ضمير صناع القرار الغربيين ومؤيديهم وهم يرون آلاف القتلى من الأطفال في غزة، لأنهم لا يرون من بشر في غزة سوى الرهائن الأجانب المخطوفين من قِبل قوى شريرة قادمة من كوكب آخر. وهذا بالضبط ما حذر منه إدوارد سعيد لأنه يدرك أن هذا الإرث من التصنيف النظري للبشر الذي أسهمت فيه علوم أنثروبولوجية واجتماعية؛ والذي كان ضحيته اليهود أنفسهم، سيتحول يومًا ما إلى جرائم إبادة.

إدوارد سعيد الذي توفي وهو برفقة، وتحت إشراف طبيب يهودي وممرضة يهودية شاركاه تفاصيل حياته، والذي أسس أوركسترا من عازفين إسرائيليين وفلسطينيين وعرب نشيدها التعايش والسلام، حين التُقِطت له صورة في زيارة لقرية لبنانية على حدود فلسطين، فترة انتفاضة الحجارة السلمية، وهو يرمى بحجر صغير صوب حدود إسرائيل، تحولت صورته تلك إلى منشور رائج تتناقله وسائل الإعلام والصحف، وأصبح ملصقًا لنموذج (المفكر الإرهابي)، وظلت هذه الصفة تلاحقه حتى رحيله، بينما انطلقت بوارج الصهاينة صوب تونس لتغتال مهندس انتفاضة الحجارة، خليل الوزير (أبوجهاد) الذي تحولت استراتيجيته في المقاومة إلى النضال السلمي متأثرًا بغاندي ومانديلا، معتقدًا أن ظهور المضطَهد الضعيف كضحية هو نوع من القوة والمقاومة.

يقول عنه ابنه باسم: كان قريبًا من الناس، وداعمًا لهم من خلال إنشاء مشاريع تنموية وثقافية واجتماعية ورياضية، ويعمل على خلق حالة فلسطينية من أجل الحفاظ على الذات والكينونة الفلسطينية من خلال مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والاستعاضة عنها بمنتجات فلسطينية، كما جسد مبدأ الاكتفاء الذاتي والمقاومة الشعبية كأحد وسائل التحرر والنضال، إذ إنه دَرَس تجارب غاندي ومانديلا.

ولكن اليمين الإسرائيلي حوّل طفل الحجارة إلى إرهابي يزعج الدبابات الإسرائيلية التي تلاحقه بمقلاعه الصغير، وتحول مهندس هذه الانتفاضة السلمية إلى إرهابي مطلوب تبحر صوبه أربع قطع بحرية مسلحة تحمل طائرات عمودية من أجل اغتياله بعيدًا في تونس، لتستقر في جسده خمس وسبعون رصاصة، ثمانٍ منها في القلب.

محمود درويش الذي كان عضوًا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وربطته علاقات صداقة وطيدة مع كتاب وشعراء وفنانين من اليسار الصهيوني، وكتب أجمل قصائده في معشوقته اليهودية من أصول بولندية (ريتا) ــ حين استخدم يومًا مجازًا شعريًا عن الحق الفلسطيني في قصيدته «عابرون في كلام عابر»، خصص الكنيست جلسة لمناقشة هذه القصيدة في أغسطس 2014 وكأنها عبوة متفجرة أو صاروخ، ليضع هذا المجازُ الشعري درويشَ في خانة الإرهابي المعادي للسامية حتى رحيله.
سميح القاسم، عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، والداعي إلى ترجمة الأدب العبري وتوطين الحوار بدل العنف، والتفريق بين اليمين الإسرائيلي العنصري وبين اليسار المعتدل، والذي يختزل قناعته في لقاء أدبي نظمته مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان بقوله «إن عقلية التحاور بالأنياب والسكاكين والمتفجرات يجب أن تتوقف». سُجِن القاسم أكثر من مرة، كما وُضِعَ رهن الإقامة الجبرية والاعتقال المنـزلي، وطُرِدَ مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي، وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، ووصفه اليمين الصهيوني بخلية الإرهاب النائمة.

دكتور عزمي بشارة، الذي درّس بعد رجوعه من ألمانيا الفلسفة في جامعة بيرزيت، كما اشتغل باحثًا ومنسقًا لمشاريع الأبحاث في معهد فان لير الإسرائيلي المعني بالمعارف الإنسانية في مجالات الفلسفة والمجتمع والثقافة، وانهمك في آليات الديمقراطية كما تروج لها إسرائيل، ليترشح العام 1996 لعضوية الكنيست، وفي السابع من نوفمبر، صوت الكنيست على نزع الحصانة البرلمانية عن النائب عزمي بشاره الذي كان وقتها رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، لكي توجه إليه عدة مذكرات اتهام بسبب إلقائه خطابين سياسيين تحدث فيهما عن حق الشعب الفلسطيني وأهالي جنوب لبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وفق قرارات الأمم المتحدة وإلزامات القانون الدولي، فوجهت له تهمة دعم منظمات إرهابية، إضافة إلى اتهامه بالتحريض على التظاهر السلمي في الانتفاضة الفلسطينية السلمية الثانية، ليخرج إلى المنفى حتى الآن.

اتهم الصهاينة بالإرهاب حتى من حاولوا الاندماج في الكيان الجديد، بشرط أن يحتوي الكل، وأن تتسع ديمقراطيته لكل المكونات، ولكن اليمين الصهيوني المتمتع بشعبية كبيرة يؤمن بالدولة اليهودية (النقية) التي سيعكر صفوها حتى المفكرون والشعراء غير اليهود، ومن أجل إقصائهم وإخراس خطابهم التعايشي المحرج كان لابد أن تُسبغ عليهم تهمة الإرهاب أو دعم الإرهاب، وكان لابد للغرب أن يصادق ــ حتى لو لم يُصدِّق ـ على ما تقوله هذه الإقطاعية الدينية التي علبوها في أوروبا وصدروها إلى قلب الشرق الأوسط، لأن فكرة السلام والتعايش لا تتفق مع فكرة جهنمية لصناعة دولة دينية تقتصر المواطنة فيها على أقدار جينية متوارثة، ومن لا يحظى بهذا القدر الجيني فهو مشروع إرهابي معادٍ لهذه الجينة، وكأن الصهيونية استفادت إلى أبعد حد من جوهر النازية التي نكلت باليهود في جرائم عنصرية لا تُغتفر، والآن هم يضعون على منصات التواصل وسم/ هشتاغ (كل فلسطيني إرهابي تجب تصفيته) و(العربي الطيب هو العربي الميت)، مثلما وضع الرايخ النازي وسم النجمة الصفراء على صدور اليهود في أوروبا.

حقيقة لا تفسير لما يحدث في غزة إلا أن هذا الدعم للاحتلال من القوى الغربية الكبرى، والتواطؤ والسكوت عن جرائم ضد الإنسانية تجري في غزة والضفة، يدل على كراهية متأصلة، وما أشرس الكراهية حين تمارسها ديمقراطيات متبجحة، وسبق أن نشرت مقالة بعنوان «الديمقراطية حين تكره»، واستشهدت في هذا السياق باقتباس من كتاب (الكراهية والسياسة والقانون)* حيث يقر محررا الكتاب، أنه «حين قارن أرسطو في (الخطابة) بين الكراهية والعداوة وبين الغضب، لاحظ أن الغضب موجّه ضد أناس بعينهم قاموا بأفعال بعينها. الغضب محدد من حيث السبب، والأشخاص، والزمن. غير أن الكراهية أكثر تجريدًا، فهي تتعلق بجماعات، وليست مقيّدة بزمن، وهي لا تتلاشى حين تُنسى الإساءة، بل تظل تتحكم في المرء وتحرّكه. قد تكره شخصًا لم يسبق أن قابلته لأن عضويته المزعومة في جماعة مكروهة هي نفسها تحدٍ. ليس الأمر فحسب هو (أكرهك لكونك ما تكون)، بل أيضًا (ما دمت تكون، لا أستطيع أن أكون). الآخر المكروه عائق لوجودي. وفي حين أنك في الغضب ترغب في إلحاق الضرر بالآخر، فيما يقول أرسطو، فإنك في الكراهية ترغب في تدميره».

* الكراهية، والسياسة، والقانون: منظورات نقدية في مكافحة الكراهية. تحرير: توماس برودهولم & بيغيت شيبلِرن يوهانسن مطبوعات جامعة أكسفورد 2018. ترجمه إلى العربية: نجيب الحصادي. قيد الطبع.