Atwasat

النسيانُ والإبداع

جمعة بوكليب الأربعاء 25 أكتوبر 2023, 04:16 مساء
جمعة بوكليب

في خريف عام 2016، كنت في زيارة قصيرة إلى مدينة تونس، في طريقي إلى طرابلس، قادمًا من لندن. ولأني لا أعرف المدينة كما ينبغي لي، طلبت هاتفيًا مساعدة من صديق تونسي، فأشار عليَّ مشكورًا بزيارة منطقة سيدي بوسعيد.

استقللت سيارة أجرة من منطقة قمّرت، وحين وصلت مبتغاي، وجدتني في تونس أخرى لم أرها من قبل، وكأنني أزور متحفًا. سماء وبحر بزرقة فاتنة، هواء عليل، ومتاجر ومطاعم ومقاه، وأناس من كل الجنسيات، و...أبواب خشبية وحديدية مطلية بالأزرق. في أحد الشوارع الجانبية، لفت انتباهي بابٌ خشبي صغير لإحدى البيوت المنزوية، عُلقت عليه يافطة خشبية صغيرة، لا تكاد تُرى من بعيد. ولدى اقترابي منها، قرأت مكتوبًا عليها بلون أسود: دار النسيان!

قبل تلك الدار في سيدي بوسعيد، لم أكن أعرف أن للنسيان دارًا. فالدور لم توجد للنسيان، سواء أقمنا بها أم ابتعدنا عنها. تمنيت لو أنني امتلكت الجرأة، وطرقت على باب تلك الدار، وطلبت إذنًا بالدخول، لأرى النسيان، أو بالأصح، لأقابل من اختاروه، وفضلوا الإقامة بداره.
النسيان أنواع، أغلبه مؤلم وموجع، وقليله مبعث للراحة. ولم نكن نعرف أن للنسيان جانبًا آخر شديد العتمة، يطلق عليه اسم الخَرف، وهو داء مرضي، عافاكم الله، يجعلنا بشرًا بلا ذاكرة.

وقرأتُ مؤخرًا أن الروائي الكولومبي الراحل، منذ تسع سنوات، جابرييل جارسيا ماركيز سوف تصدر له رواية عنوانها باللغة الإنجليزية: «Until August» وترجمته: «حتى أغسطس». الرواية كتبها ماركيز في آخر أيامه، وهو مصاب بمرض الخرف. واتضح أنه طلب من ورثته عدم نشرها بعد موته. إلا أن أولاده، بعد مرور تسعة أعوام على رحيله، قرروا نشرها، في مخالفة صريحة لوصية والدهم.

وبالتأكيد، هناك أسباب وراء حرص الراحل جابرييل جارسيا ماركيز على عدم نشر الرواية. أهمها أنه كان على دراية ومعرفة بما يعانيه من ضعف في الذاكرة، بسبب الداء. ذلك الخوف، في نظري، ناجم عن خشيته من أن الداء قد أثر بشكل سلبي على قدراته الإبداعية فنيًّا وجماليًّا، وبالتالي، فإن الرواية لن تكون بالمستوى الروائي الفنّي المعهود منه والمتوقع.

السؤال: لماذا أصرَّ الراحل ماركيز على كتابة رواية، وهو مصاب بالخرف؟ هل الكتابة في ذلك السياق محاولة منه لمقاومة الداء، أم أنها العادة والروتين الحياتي لروائي محترف لا يستطيع العيش من دون ممارسة فنه؟ هناك احتمال أن ماركيز ربما كان في حالة نفسية سيئة، لعلمه أنه لم يعد كما كان، وأنه قد غادر حدود ما يعرف، ودخل مضطرًا وقسرًا إلى حدود ما لا يعرف ولا يشتهي. الإجابة اليقينية غير متوفرة، لكن طلبه بعدم نشر الرواية، يقود إلى استنتاج مفاده أنه كان على علم ودراية بما كان يحدثه له الخرف من تداعيات سلبية على كتابته، وأنه ربما فضل مقاومته بمواصلة الكتابة، على أمل عدم فقدان ذاكرته كلية، والاحتفاظ بما يمكنه الاحتفاظ به منها.

الكتابة عمومًا، والكتابة الإبداعية خصوصًا، في نظري، فعل إرادي ضد النسيان، وضد الموت. والكاتب الذي يقع فريسة لداء النسيان، أي يفقد ذاكرته، بسبب داء الخرف، لابد وأن يطال الداء قدراته الفنية والجمالية والفكرية. فهل الكتابة في هذه الحالة، كانت توفر لماركيز الإحساس بنوع من الأمان النفسي، كونه مازال حيًّا وقادرًا على الإحساس بذاته، ومواصلة ممارسة حياته وفنه؟

من المعروف طبيًّا أن داء الخرف يحول بين المرء المصاب به وبين متعة القراءة. إذ ليس بإمكان المصاب متابعة القراءة، من دون امتلاك ذاكرة. فهل الكتابة أمر مختلف؟ وعلى سبيل المثال، فإن كتابة رواية تستدعي من المؤلف تذكر كل ما كتب من تفاصيل، ليكون قادرًا على الوصول بالحبكة الروائية إلى الغاية المقصودة. فهل كان الراحل ماركيز مثلًا يتذكر تفاصيل ما كتب من فصول، أم أنّه كان «يلوي في الفراغ»، بمعنى يواصل الكتابة من دون قدرة على تذكر ما سبق له كتابته من تفاصيل؟

من المهم الإشارة إلى أن الرواية المعنية ستصدر في شهر مارس القادم. وقراءتها ضرورية، خاصة لمن امتهنوا فن الكتابة الإبداعية، إذ من المحتمل أن تضيف إليهم جديدًا، يتعلق بتأثيرات الداء المقيت على موهبة الكاتب المبدع.