Atwasat

الفلسفة في بنغازي (2)

سالم الكبتي الأربعاء 25 أكتوبر 2023, 03:15 مساء
سالم الكبتي

قبل حضور د. بدوي إلى الجامعة الليبية في بنغازي كانت في الأساس ملتقى للتيارات الفكرية والعلمية من خلال وجود نخبة ممتازة من الأساتذة العرب من مصر والعراق وسوريا ولبنان استطاعوا التأثير في العقول وخلقوا مناخا من التواصل مع المعرفة والثقافة وروح البحث.

وظلوا يشكلون وحدة من المرجعية والعلمية العربية في المبنى الصغير الواقع في أهم شوارع المدينة إضافة إلى مجموعة من الأساتذة الأجانب. وفي قسم الفلسفة وحده كان هناك العديد من الأساتذة الكبار الذين وفدوا إلى الجامعة منذ نشأتها في مقدمتهم محمد بوريدة وتوفيق الطويل وأحمد الأهواني ومحمد أبو ريان وحسين سلامة الجوهري وعثمان أمين الذي وضع فلسفته الجوانية في مقهى العرودي.

ومحمد مصطفى حلمي وعزمي إسلام وغوث الأنصاري وتوفيق رشدي وياسين خليل وحسام الدين الألوسي ونوري جعفر وعادل فاخوري...... وغيرهم. ومنذ القدم كان ثمة فلسفة ليبية في هضاب قورينا عند أقدام الجبل الأخضر حيث ظهر مذهب اللذة والفلاسفة المشاؤون في دروب الحكمة والطب والعلوم والرياضة هناك. وسيهتم بدوي بهذا الجانب الفلسفي الليبي العريق ويترجم عنه ويكتب العديد من أعماله الفكرية المعروفة.

تلك التيارات الفكرية لم تتصادم بحدة أو بعنف عبر الجامعة وخارجها، لكنها تواصلت بالحوار واحترام الغير وخرج من عباءة هؤلاء الرجال ورحاب الجامعة أجيال من الطلبة فاخرت بهم في دفعاتها المتتالية. وكان الكثير من الأساتذة في هذه الآفاق الثقافية والفكرية المتاحة قد تواصلوا مع المجتمع من خلال مواسم الجامعة الثقافية ونشاطهم الفكري في الأندية وعبر الكتابة في الصحف ببنغازي، ومثالا على ذلك ما نشره الأساتذة.. عبدالعزيز برهام ومحمد خيري وحسين سلامة الجوهري وعبدالقادر القط وباقر سماكه.. وغيرهم.

وكانت الجامعة تنهض مع الصباح لتتطور وتقدم لأجيالها عوامل الحرية الفكرية والجو العلمي المناسب الذي ربما فقد في جامعات أخرى في المنطقة، غير أن مجموعة من هذه الأجيال ظل عقلها وعيونها في الجوار القريبة والبعيدة. الأحزاب. العروبة. المصير الواحد. الخطاب الهادر وصراحة* يوم الجمعة في الأهرام وصوت العرب من الصباح إلى المساء من خلال أحمد سعيد. أعوام الستينيات وصراعها ومخاضها. وكل الحراك يتحرك ولا يهدأ. الثقافة والفكر والفلسفة والشعر والكتب والمراكز الثقافية والصحف وما يرد من المطابع في بيروت والقاهرة.

في بنغازي وحدها تتجول في مكتبات الأندلس والوطنية والوحدة العربية وغيرها عيناك تتصفحان كتب ومؤلفات تتجاور فوق الأرفف. المودودي وسيد قطب وسارتر وسيمون دو بوفوار وجيفارا وفرانز فانون والبياتي ونزار والسياب وهمنجواي ونجيب محفوظ واسطوانات فيروز وآخر صيحات الموضات في المحلات، وكانت ليبيا بأسرها تسير دون أن تدري نحو شيء آخر. وكان البحر يتنهد وتجاوبه سباخ الملح بالسهر والحمى. بنغازي لم تكن استثناء ولم تكن حدثا عابرا ولم تكن مدينة حجرية جامدة. كانت تتحرك وتنهض وتلامس أقدامها التراب والطين والملح وتنغرز فيها بالكامل.

وقبل الجامعة في بنغازي طاف بدوي بين العديد من الجامعات أستاذا وزائرا في لبنان وسويسرا وفرنسا. وكانت له محاضراته وجولاته الفكرية خلالها. في باريس ظل فترة هناك حتى مجيئه إلى بنغازي. التقى عبر هذه الفترة العلمية من حياته بكثير من الطلاب والباحثين العرب الذين عرفوه عن قرب. من بينهم فهمي جدعان الذي تعرف عليه بعد محاضرة ألقاها بدوي عن الآثار اليونانية لدى فلاسفة الإسلام.

وكان يذكر زيارته القديمة لقسم الفلسفة في جامعة دمشق عام 1961 واعتبره جدعان أستاذا له ولكل أبناء جيله من المتفلسفة في العالم العربي. نشأت علاقة علمية بينهما وظلا يلتقيان كثيرا وقد وصفه في كتابه (طائر التم.. حكايات الخطأ والأيام) بالقول: (كان بدوي شخصية فذة ظريفة غريبة مثيرة مستفزة استحواذية ساخرة عنيفة في ازدراء الآخرين لا يكف عن النقد الذي يذهب في كثير من الحالات إلى استخدام أقذع الألفاظ وأقساها في نعت الذين لا يرتاح إليهم أو لا يحبهم من الأساتذة أو الكتاب أو المثقفين أو السياسيين. يبغض جمال عبدالناصر بغضا لا حدود له وذلك بالطبع لأن الثورة ألحقت بعائلته – النبيلة - أضرارا كبيرة. لكنه كان يعشق المغنية المعروفة سميرة توفيق عشقا غير عادي ومن المؤكد أنه كان يخفي وراء نزعته العدوانية العنيفة تجاه جملة الآخرين قلب طفل. قلب إنسان رقيق وعميق الأحاسيس والمشاعر).

وهذا كلام صحيح في تحليل شخصية بدوي الفيلسوف الذي حل ببنغازي. لوحظ عليه ذلك أغلب الوقت. وقد نفس عن غيظه وتبرمه كثيرا في مرحلة لاحقة من خلال ما ختم به حياته الفكرية والعلمية بإصداره سيرة حياته في جزئين. كان فيها بدوي يسابق السطور باللعنات والشتائم والنقد الحاد لكل من صادفه ويعلي من قدر نفسه بطريقة تمتليء غرورا ونرجسية.

أذكر حساسيته المستمرة مع أغلب أعضاء هيئة التدريس في الجامعة ببنغازي من زملائه المصريين. كان يعتبر بعضهم وشاة للسلطة في مصر وعملاء للمخابرات. وكان يستهزيء بهم ويسخر منهم ويتصادم في جانب آخر مع بعضهم الآخر أمام الجميع. كان د. بدوي ذات صباح في مكتب د. منصور الكيخيا عميد كلية الآداب في اجتماع معه.

كان رئيسا لقسم الفلسفة وسكرتيرا لمجلس الكلية. وهنا طرق د. محمد العريان أحد أساتذة قسم الاجتماع الباب وهم بالدخول. كان على حساسية واضحة مع د. بدوي وعندما وجده مع العميد الذي أذن له بالدخول.. تراجع وأشار بأنه لا يود القيام بذلك لأنه يخشى أن تنهشه كلاب العميد.

هنا شعر د.الكيخيا بالحرج فقد كان بين أستاذين يكبرانه سنا ويترأسهما علميا لكن د. بدوي رد على الفور بأن كلاب العميد لا تأكل الجيف!!. وذهب العريان في حاله. كان ذلك عام 1971. لم يكن بدوي في كل الأحوال متساهلا في ردوده القاسية وعلى الدوام ظل عنوانا مهابا للأستاذ المتوحد البعيد عن المجاملات أو مظاهر النفاق. المنصرف إلى عمله ومحاضراته بكل دقة وإحساس بقيمة الوقت.. وبذاكرة تفل الحديد.. يسري عن تفاصيلها بأغاني أم كلثوم وسميرة توفيق.. وشادي الجبل أيضا!!

* زواية أسبوعية يكتبها محمد حسنين هيكل يوم الجمعة بصحيفة الأهرام بعنوان "بصراحة".