Atwasat

الفلسفة في بنغازي (1)

سالم الكبتي الأربعاء 18 أكتوبر 2023, 04:29 مساء
سالم الكبتي

سبتمبر 1967. على تغيير قادم ما يزال عامان. الخريف وبنغازي. المدينة تتثاءب في الصباح والمساء. والبحر يتنهد وهو يلفها. ثلاثة أشهر مرت على أيام شهدتها. كانت كالحة ومالحة مثل مذاق ملحها في السباخ الممتدة على حوافها عند جليانة والصابري. تفجر الغضب في المدينة حرائق وأدخنة سوداء. ذلك كان في يونيو اللاهب الذي مضى حيث العرب فرحوا وصفقوا ثم عم صدورهم الحزن والقلق.

الآن هدأت المدينة. اعتقالات طالت بعض الشباب ممن احتواهم التنظيم القومي. أرسلوا إلى طرابلس للمحاكمة. وثمة آخرون قبعوا في السجن الرئيسي عند جبانة خريبيش بتهمة توزيع منشورات وتحريك مشاعر الغضب ثم أطلق سراحهم وعادوا إلي بيوتهم. بنغازي بشر وحجر وحراك مكتوم في الصدور على الدوام ثم ينطلق عنيفا في كل الاتجاهات. حراك يلتقط ويرصد ويتلقف ويختزن.. وبعدها يغلي وينفجر. هكذا عبر التاريخ والبشر والحجر والمكان والزمان والظروف المناسبة.

أحداث في الصيف ساخنة خلال الشهر السادس الذي يشكل منتصف الموسم في التقاويم.. خفتت في الخريف الذي أقبل وذبلت فوق الأرصفة وغابت لاحقا في الشتاء.

ظل الناس في المدينة معلقين مع آذانهم عبر الإذاعات. الراديو كان بوصلة الاتجاهات البعيدة والقريبة. لم يأت التلفزيون إلى البيوت بعد. فاتتهم المشاهد والمرئيات الكئيبة عبر شاشاته. الراديو الذي كانوا يعرفونه بـ (صندوق العجب) ذات يوم كان يمتليء بالأخبار والتحاليل والأغاني. عالم الظهيرة وعالم آخر في المساء وفي الصباح الباكر مع فنجان القهوة قد تطرأ أخبار جديدة. ودائما. كانت تطرأ. لكن ما يعاد في عمومه يظل بائتا وباهتا في أضابير الوكالات إلى أن يكتسحه خبر مهم جديد يحتل الصدارة عبر النشرات والمواجز. كان الراديو يجول كل المحطات: لندن. القاهرة. أمريكا. ألمانيا. الناطقة بالعربية، لكن المؤشر على الموجة القصيرة أو الطويلة يبقى عند ساعة بيج بن ودقاتها الشهيرة.

بنغازي مثل باقي المدائن العربية تلك الأيام. حزن يكبر ويلامس السباخ والجدران والأعتاب. وانكسار ووجع في القلب جراء ما انتكس وضاع.

هنا وصل إلى مطارها المتواضع القادم من باريس الذي كانت القاهرة قد جفته منذ فترة. ابتعد عنها. لم تعد تروق له. أول مرة يشاهد بنغازي الناهضة من الحزن والسواد.

كان يعرف أن انطلاق الجامعة الليبية تكون خلالها. أساتذة كبار من مصر سبقوه وأسهموا في تأسيسها وتتالت معوناتها العلمية من خيرة الأساتذة إليها. وجدوا تقديرا وسكينة وحرية وأمانا. ولم يشعروا وسطها بضيق. بوريدة والحاجري وشعيرة وطريح شرف ومعهم الأجنبي الوحيد وليامز. وسيتواصل العدد لاحقا مع الأيام. توطنت الجامعة في بنغازي وتمددت تنشر العلم والمعرفة بين شباب الوطن. كان الحلم أن تسابق الزمن وتصنع المستقبل.

كانت علاقته بليبيا في البداية نشأت عبر مقال نشره في صحيفة اللواء الجديد الصادرة بالقاهرة يوم 31 ديسمبر 1951 بعد استقلالها بأسبوع واحد. استقلالها الذي أعلن من المكان الذي أضحى الجامعة الليبية. كان عنوان المقال (ليبيا وليدة المناورات الاستعمارية).

لم يكن المقال يتعلق بالفلسفة أو المنطق، لكن الأستاذ غاص خلال سطوره في السياسة وأكد أثناءه على أن الدولة الليبية الناشئة ولدت مشوهة الاستقلال وأنها ستكون تحت الاحتلال البريطاني والأمريكي والفرنسي. وطالب في ختام المقال مسؤولي الجامعة العربية بعدم قبول ليبيا عضوا بها حتى لا تزيد للنفوذ البريطاني ممثلا جديدا في قاعاتها!

وها هو الأستاذ الشامخ العملاق بنظارته المهيبة وتعاليه المعروف يصل بنغازي في سبتمبر. بنغازي المدينة. القرية. الضاحية. المنطقة. البحر والسباخ عبدالرحمن بدوي. الفلسفة وبنغازي.