Atwasat

لعبةُ كل الأزمنة

جمعة بوكليب الأربعاء 11 أكتوبر 2023, 12:48 مساء
جمعة بوكليب

في رواية «الطريق الوحيد» للقاص والروائي التركي ذائع الصيت عزيز نيسين، الصادرة عن دار المدى بدمشق - طبعة أولى 1997، وثانية عام 2007- ونقلها إلى اللغة العربية عبدالقادر عبداللي، يأتي الروائي على ذكر قصة طريفة، حدثت في الصين، في مرحلة ما قبل الحكم الشيوعي. بطلاها شخصان، أحدهما مواطن صيني عضو في الحزب الشيوعي المحظور وقتذاك قانونًا، والآخر مواطن صيني أيضًا يعمل مخبرًا سريًا في جهاز الأمن السياسي. طرافة القصة تنبع أولًا من غرابتها، وثانيًا من عمق معانيها المستخلصة.

تقول القصة إن رجل الأمن السري كان مكلفًا بمراقبة ورصد كل تحركات مواطنه الشيوعي. فكان يراقبه يوميًا أينما ذهب وحَلّ. وكان الشيوعي يعرف ذلك، وكلما حاول الزوغان من المخبر الأمني، يجده وراءه. بعد مرور سنوات، لم يعد يطيق تلك الملاحقة الأمنية المملة، لكنه لا يستطيع فعل شيء. وفي ذات الوقت، كان رجل الأمن قد ملّ هو الآخر الملاحقة اليومية، ولم يعد يطيقها، وكان بإمكانه فعل شيء، لو أراد.

حالة السأم والملل التي أصابت الاثنين، جعلتهما يفكران، كل على حدة، في طريقة للتخلص منها. المبادرة جاءت من عميل الأمن. إذ ذات يوم، اقترب من مواطنه الشيوعي، وشكا له ملله وتعبه من ملاحقته، واقترح عليه إبرام اتفاق بينهما، يقضي بأن يكف المخبر الأمني عن الملاحقة اليومية، مقابل أن يقبل الشيوعي الصيني باللقاء به يوميًا في المساء، وإبلاغه كل تحركاته ذلك اليوم، ومن قابل، وماذا فعل، ومن التقى، وبعدها يقوم هو بكتابة التقرير وتسليمه لرؤسائه في الجهاز الأمني! واختار عميل الأمن مقهى معينًا في المدينة، ليكون مكانًا للقاء بغرض تدوين التقرير.

الاتفاق جعل الشيوعي الصيني يستريب في الأمر، حتى إنه ظنه فخًا للإيقاع به. فسأل عميل الأمن كيف يمكنه الوثوق بما يبلغه به من معلومات؟ وكيف يتأكد أنه لن يكذب عليه، وهو يعلم أنه عضو في حزب ممنوع، ولن يقول الحقيقة لمخبر أمني؟ هزّ عميل الأمن كتفيه، وأكد للشيوعي أنه يثق به كل الثقة. وأضاف قائلًا: ليس المهم أن تكذب أو تقول الحقيقة، المهم هو أنني أكتب بعض الوقائع في تقريري اليومي الذي أقدمه لرؤسائي!

ارتاب الشيوعي في صفقة رجل الأمن المقترحة، لكنه، وعلى أمل أن يتخلص من ملاحقته، قبل بالاتفاق. وفي ذات الوقت، وحتى يتأكد من أن عميل الأمن صادق في كلامه، طلب من رفاقه أن يكونوا عيونًا له، ويتأكدوا أن لا أحد يراقب تحركاته. وبالفعل، ثبت أن العميل الأمني كان صادقًا، ولم يقم بعد ذلك اليوم بملاحقته. لكنهما كانا يلتقيان مساء كل يوم في المقهى المتفق عليه. وكما هو متوقع، التزم الشيوعي الصيني بتقديم روايات مختلقة لما كان يفعله. وعلى سبيل المثال، إذا اتجه إلى منطقة في غرب المدينة، يقول للعميل إنه ذهب شرقًا. وكان العميل يسجل ذلك، وفي نهاية اللقاء يجمع أوراقه، ويذهب لتقديم التقرير إلى رؤسائه.

الغريب والعجيب في القصة هو أنه رغم توقف العميل الأمني عن ملاحقة الشيوعي الصيني، كان بإمكانه معرفة الحقيقة، أي أنه مع الرؤساء في الجهاز الأمني، صاروا يعرفون بدقة تحركات الشيوعي الصيني من خلال ما كان يرويه من أكاذيب للمخبر الأمني.

وفي تفسير ذلك، يقول الراوي إن الأجهزة الأمنية المكلفة بمحاربة الشيوعية والشيوعيين في الصين ذلك الوقت، كانت قد حددت خلال رصدها للشيوعيين في سابق الأعوام شخصية ذلك المواطن/ العضو في الحزب المحظور بشكل جيد جدًا. وكان خبراء الجهاز من المختصين بمقدورهم كشف الكذب. وبالتالي اكتشاف الحقيقة المخبأة وسط تلك الأكاذيب. لذلك، يقول الراوي، إن الخبراء كانوا يعرفون أن كل كذبة تحتوي داخلها حقيقة سرّية. وأن في كل تلفيق أمرًا صحيحًا.

وأن الإنسان مهما كذب لن يتحرر من حقيقته، وهذا يطابق تمامًا محاولة الإنسان التخلص من الزمان والمكان اللذين يعيش فيهما. فعندما كان الشيوعي يكذب قائلًا إنه ذهب إلى غرب المدينة، يعرف جهاز الأمن أنه ذهب إلى شرقها. أي أن الكذبة تحمل الحقيقة داخلها. ولذلك السبب كان بإمكانهم معرفة الحقائق التي يريدونها من خلال ما يرويه من أكاذيب كل يوم، ومن دون حاجة إلى مراقبته وملاحقته!