Atwasat

المرأة البدينة في رأس الهلال

سالم الكبتي الأربعاء 04 أكتوبر 2023, 12:48 مساء
سالم الكبتي

(حباك الله يا رأس الهلال..)
أحمد رفيق

البحر والجبل والغابة والأودية والآثار وأطلال المقابر القديمة (صنيبات العويلة). ذلك رأس الهلال. المرسى العتيق منذ أيام الأغارقة ومن تلاهم. الذي اسمه في زمن قديم (ناو ستاثموس) كما تؤكد المصادر الموثقة لتاريخنا. القلارية.. النفق المؤدي إلى المرفأ.. المنارة في الليل تضيء بوهن. وعواء الذئاب من بعيد.

جمال وهدوء يستغرقه. حركة دؤوبة في الصيف والربيع. مناحل العسل. والشمس والقرية الوادعة. تصل الطريق الى الرأس قادمة من ناحية الغرب وتحاذي البحر من جهة اليسار.. قادمة من قورينا وأبولونيا. وأخرى من الشرق تحاذي الأخاديد والأودية من درنة وكرسه ولاثرون. والجمال يتحرك معك. يقف عندما تقف. ويتحرك عندما تتحرك وتتجه. كل هذا يعرفه الجميع ممن وقعت خطاه على رأس الهلال. وثمة قصائد وأشعار وذكريات تشكل حزمة من الغزل في ذلك الرأس والإشادة بالمكان وجمالياته وروعته. جمال على جمال في كل الأوقات. ومع الحركة يتحرك التاريخ معك أيضا. الإغريق. والرومان والبيزنطيون.. وكل الأقوام.

وهناك فوق تلة بعيدة تطل على البحر والقرية والطريق الواصلة والرابطة بين هنا وهناك يقبع أحد البيوت وخلفه أسرار وألغاز لم يقف عليها أحد حتى الآن. بيت بعيد تتوارى في جنباته طلاسم وحكايات لم يكملها الرواة. انقطعت صلتهم بسيرته وتوقفت في لحظة من الزمن وظلت الأسرار مثل الآثار والأطلال واللقى خلال كنوز رأس الهلال دون أن تظهر. أو تبين. أو تنكشف.

البيت الرابض فوق التلة تحته الغابة وأمامه البحر من البيوت التي بناها الطليان لمستوطنيهم أيام احتلالهم للوطن. أتوا بهم من جنوب إيطاليا ليوطنوهم في الأماكن الليبية الخصبة شرقا وغربا. كان لديهم جوع للأرض كما هتف بذلك زعيمهم موسوليني. كان ديكتاتورا بمعنى الكلمة. ينفش صدره مثل ديك أحمق. كان يقول للآخرين.. لتغلق الأفواه وتفتح الآذان. تفتح لما أقوله أنا فقط.

فيما الأهالي والسكان أصحاب الأرض استقروا في المعتقلات الموحشة أو الأماكن النائية القاحلة يواجهون الموت بالموت والجوع بالشعر والحزن والصبر أو هاجروا خارج الحدود.. بعيدا عن الديار. المعتقلات والتهجير كانا خطة مدروسة بعناية فائقة واتفقت فيها الديكتاتورية مع الفاشية والنازية. فكر بغيض يقوم على العنصرية ومحو الآخر وإلغائه من الوجود. استبدال الأصل بالهجين. كان في استقبالهم في تلك الأيام بالبو رفيق الديكتاتور. سلمهم بيده مفاتيح تلك البيوت. كل سيشلياني يتجه نحو البيت ليجد كل شيء. الأثاث. بضع بقرات وشياه وخنازير وآلات الحرث والحصاد والدرس وحطب المدفئة.. وكل شيء. عليه أن يسكن ويفلح الأرض ويتجاور مع بقية المستوطنة. نظام فاشي يشبهه كيوبتز اليهود في الأرض المحتلة..

هناك عند التلة. في البيت الإيطالي المطل على البحر والغابة ثمة سر يقبع وراء جدرانه. ظل البيت في مكانه وظل الصمت يرين على ذلك في أغلب الأحيان. طنين النحل يقتل الصمت بعض المرات. البيت سكنته إمرأة إنجليزية بدينة. مستوطنة من نوع جديد تطايرت الأقوال والحكايات والأساطير حيالها. وغدت مثل أساطير بنات الجن وحكايات الغيلان. بعضها يروي ويؤكد أنها وصلت مع قوات الحلفاء زمن الحرب العالمية الثانية. العالم كله يلتهب ويحترق. كانت في خدمتهم ضمن كتائبها. بعضها يقول أنها زرعت فوق التلة في ذلك البيت لأعمال التجسس والترصد. بعضها يقول أنها تتبع الاستخبارات البعيدة خلف البحار.

.. وتلك المرأة البدينة تنهض كل يوم مع الشمس. ترتب بيتها. كانت قابعة خلاله وحدها طوال السنوات والأيام. في الفصول الأربعة ومع الشموس والأقمار وعواء الذئاب المتصل في الليالي الموحشة. كانت وحيدة تماما في ذلك البيت. وربما تتواصل مع أهلها البعيدين عبر البريد بين حين وآخر. وكانت تسعى بين المناحل وتبحث عن المراتع المناسبة. مهنتها تربية النحل واستخراج العسل.. ثم بيعه. نال عسلها شهرة غمرت الآفاق وتخطت رأس الهلال. المسؤولون والمواطنون عرفوا لذة عسل المرأة البدينة وظلوا يفاخرون بالحصول عليه.. سدر. ربيع. حنون.. وهكذا. لكن البيت خلفه سر عميق.. لكن النحل رغم طنينه في المراتع والمرابع ومناحله المنتشرة وراءهما أسرار. كنوز رأس الهلال عميقة مثل وديانه وأغواره وأدغاله وآثاره. المرأة البدينة وحيدة في البيت. البيت فوق التلة والنحل يجوب المراتع ويطن. والعسل يباع. فهل كان معه سم في العسل !

البيت فوق التلة وأمواج رأس الهلال تتكسر عند شاطئه. والشمس والغروب. والقرية تنام وتصحو والمنارة تضيء بوهن وخفوت والسر يظل معلقا.

تتردد الحكايات والروايات عبر الأودية مع عواء الذئاب في الليالي. والقمر يبدو في السماء ثم يختفي. والمرأة البدينة تقبع وحيدة في البيت تربى النحل وتبيع العسل.

في سبتمبر 1969 مع بدايته تغير الحال في البلاد. لم يعد ثمة طعم للعسل. لم يعد ثمة وجود لأسراب النحل. اختفى السر الكبير ولم يقف عليه أحد. ربما مات على الشفاه. ربما ظل مكبوتا في كمد عبر الصدور. المرأة البدينة الوحيدة التي كان في وجهها بعض النمش في أول يوم غادرت عبر الشاطيء ولم تعد. أعني تلك المرأة البدينة التي كانت في رأس الهلال!