Atwasat

الوشوشة والإنصات

محمد عقيلة العمامي الإثنين 02 أكتوبر 2023, 12:03 مساء
محمد عقيلة العمامي

سأل عني شخص في مقر عملي، فجاء به إلي أحد الرفاق. سألني إن كنت أنا فلان، فأكدت له بابتسامة ترحيب: «نعم، تفضل»، أجاب صارما: «لا!! تفضل أنت معي». قالها وبدا لي أنه لا يعرف كيف يبتسم، فسألته: «من حضرتك وإلى أين أتفضل معك؟»، فأجابني بالصرامة نفسها: «ستعرف لاحقا». عندها أيقنت أنه «حكومة!»، فقلت له بهدوء: «يا أستاذ أنا مدير هذه المصلحة، ولا بد أن أخبر نائبي إلى أين أنا ذاهب، ومتي سأعود، لأن ثمة أمورا يتعين القيام بها، فمثلا..». قاطعني، وأخرج من جيبه ورقة مطوية، بطريقة بان منها كعب مسدس!. قرأت الرسالة، وكانت من الأمن الداخلي. رفعت سمّاعة تليفون المكتب، فقال محتدا: «لا تتصل بأحد. سوف تتصل من مكتبنا». مازال محتدا، فقمت وندهت بصوت عال لنائبي: «تعال يا علي. خذ مفاتيح المكتب. أنا مطلوب للأمن الداخلي».

احتار الرجل الذي لا يعرف الابتسام، واستدار نحو الباب، مترقبا وصول علي، بعدما سحب المسدس من جيبه الداخلي، ووضعه في جيب «الجبوتينو» الذي كنا قد استوردناه من فيتنام!. سلمت نائبي علي مفاتيح المكتب، وطلبت منه يبلغ «فلان»، وهو رئيس الشركة المباشر، وأن يخبر أسرتي أنني سافرت إلى سرت!.

عندما وصلت إدارة الأمن، أجلسوني بممر يتوسط مكاتب على اليمين واليسار. وأمام المكتب المختص، ظللت قرابة نصف ساعة، خلالها لم يدخل ولم يخرج أحد. جاءني الرجل الذي لا يعرف الابتسام، وأدخلني مكتبا فسيحا، وقفل الباب خلفه بعدما غادر. ظللت واقفا دقيقة أو اثنتين، قبل أن يرفع رجل المكتب الفسيح رأسه، ويأمرني أن أجلس، وانكب مجددا على أوراقه، فجلست. رفع رأسه بعد نحو عشر دقائق من على أوراقه، ونظر إلي بوجه يخلو من الملامح، وأمرني أن أنتقل من الكرسي الذي جلست عليه إلى الكرسي المقابل بجهة يسار مكتبه.

وبدأ التعارف، ليأخذ صيغة التحقيق في مسائل أعرف أنني نفذتها بأمانة، وأنه ليس لدي ما أخشاه، فلقد اتضح من البداية أنها وشاية كيدية. اختتم لقاءه بالقول أنه سيتولي التحقيق الرسمي بنفسه هذه الليلة، وأخذوني إلى زنزانة بالكاد يستلقي بها شخص واحد، ومرت الساعات وكأنها أشهر. لم يكن هناك ما أخشاه، ولكن الزنزانة تقتل روح الإنسان، إذ يصبح مجرد «بهيمة» في قفص!.

في المساء، تبسم، وهو الذي لم يتبسم في جلستنا السابقة، ويبدو أنه قرأ الأوراق، وأنها لا ترتقي إلى معاملة صارمة، وما إن عرف أين مسكني حتى عرف أن خالا له يسكن في الشارع نفسه، وكان بالمناسبة صديقا عزيزا خلوقا، وفوق ذلك «ولد بلاد».

انتهزت الفرصة، وطلبت منه خدمة بسيطة، وهي أن يسلم مفاتيح سيارتي إلى خاله، ويطلب منه أن يسلمها إلى أحد أشقائي، وكنت على يقين أنه سوف يتصل به، وجاري بدوره سيؤكد له أنني بعيد عن أية شبهات، وهذا ما حدث، فلقد أخبرني في اليوم التالي أنه رفع تقريره، وفي انتظار التعليمات بالإفراج عني، ولكنه أكد لي أن الأمر سوف يستغرق أيام بقية الأسبوع، لأنه مثل ما قال لي: «البديهيات في عملنا «المعفن» هذا سرعة القبض، والتريث في الإفراج!»، وأصبحنا أصدقاء، حتى إنني سألته: «لماذا طلب مني أن أنتقل من الكرسي الذي جلست عليه أول ما دخلت مكتبه إلي الكرسي المقابل؟»، فقال لي إنها أسباب متعددة، وأمور يتعين على المحقق أن يقوم بها، ليربك المتهم، ويزعزع ثقته في نفسه، وأيضا في الأجوبة التي يكون قد أعدها لتساؤلاتنا!، فـ «الأمر بانتقالك من مقعدك من دون سبب سوف يربكك، ويربك ما أعددته من إجابات عن أسئلة متوقعة!."

لماذا أقص عليكم هذه الخرافة، التي بالتأكيد، سبق أن تناولتها من قبل، والأرجح في كتابي «قهوة سي عقيلة»؟. حسنا، السبب أنني قرأت مقالا عن «السؤال» الذي يقول الكاتب عنه: «إنه فن دقيق»، ووردت فيه بضع معلومات لا تختلف كثيرا عن معلومات التحقيق، ورأيت أن أنقلها بتصرف، فقد تكون مفيدة للذين قد يسألون، وبالتأكيد قد يجيبون.

يستهل الكاتب مقالته بإقرار أن كل مقابلة بين شخصين أو أكثر هي مساءلة «عاطفية»، ويؤكد أنه ليس من لقاء غير شخصي للعقول، فبالتأكيد هناك «وعي إنساني»، وتبادل في الأحاسيس مع نادل المطعم، والشخص الذي تتحدث معه عبر الهاتف، وموظف الاستقبال في أي فندق أو مصلحة، والفني المكلف بقطع توصيلة الكهرباء عن بيتك، لأنك لم تسدد المستحق عليك. كلها تجارب إنسانية قابلة للتطور أو لغير ذلك.

الحيوانات فقط تشتم عبر أنوفها بعضها البعض، وقد تتجاذب أو تتنافر، إنما بين البشر فتتأسس عاطفة إنسانية، وعلى المرء أن يتوقع تأسس هذه العلاقة، لذا يتعين أن يتخلى المرء عن خطوطه الدفاعية، أو على الأقل يجمدها فترة، حتى تتضح الأمور. وعلى السائل أن يوضح هدفه، لأن الذي تسأله بالتأكيد سريعا ما يتأسس لديه سؤال طبيعي: «لماذا يسأل؟ ماذا يريد أن يعرف؟»، فتوضيح السؤال مفيد لك وله.

التعاطف والمجاملة مع من يسأل يقربك منه. أذكر أن أحد أصدقائي من صيادي السمك كان مقربا من كل الذين عرفهم، وانتبهت إلى أن سبب محبة الناس له أنه يجيد الإصغاء والتعاطف والمجاملة، فمن عادة صيادي الأسماك المبالغة في حجم السمكة التي يصطادونها، أو في الكميات التي كانوا يحصلون عليها من صيدها بالديناميت، ولا أذكر أبدا أن رقما قيل في حضوره، سواء عن وزن أو حجم السمكة أو كمياتها، اعترض عليه وخالفه. إجاباته دائما إيجابية: «صحيح.. فيه أسماك بهذا الوزن»، أو عندما يكون الحديث عن الكمية: «صحيح.. حدثت زمان فلان صعق سرب بوري، ظللنا من الفجر حتى الليل نجمع فيه! لا صارت أكثر من مرة».

أستطيع أن أقول إنه صياد السمك الوحيد الذي لم أره يجلس بمفرده، أو لا يتسامر مع أفضل تجمعات الصيادين برصيفهم في الأماسي الصيفية، متحلقين حول وجبة «الحرايمي» الشهيرة، وكانت حصته أفضل قطع السمكة، وأفضل ما يسخن من خبز التنور!.

كان الإنصات، واستيعاب الإجابات، وحرصه على كلامه، وحماية آراء الآخرين، وفوق ذلك بدايته الحديث من حيث ينتهي الشخص الآخر، مؤكدا له صحة رأيه، قائلا كالعادة للجميع: "صحيح صارت، ديما تصير..". ملزومة يعقب بها ، من بعد إنصات كامل، ذلك من الميزات الجيدة المشهود له بها. إن فن الإنصات هو سبيل المرء في تجنب زلل اللسان، رحم الله صديقي (الرايس حميدا حمي).