Atwasat

لا تتركوا «درنة» وحدها

إبراهيم حميدان الخميس 28 سبتمبر 2023, 12:55 مساء
إبراهيم حميدان

كان العالم وليبيا والشرق الليبي تحديداً على موعد في الحادي عشر من سبتمبر الجاري مع كارثة إنسانية لم يُعرف لها مثيل في تاريخ ليبيا، تمثلت في انهيار سدي وادي درنة وحدوث فيضانات قوية نتيجة إعصار «دانيال»، ما أدى إلى سقوط ضحايا في مدن وقرى الجبل أغلبهم من درنة، جرفهم السيل نحو البحر، أو دفنهم تحت أنقاض المباني التي دمرها. بلغ عدد الوفيات 3868 شخصاً وفقاً لما جاء على لسان الناطق باسم اللجنة العليا للطوارئ والاستجابة السريعة بالحكومة المكلفة من قبل البرلمان محمد الجارح خلال مؤتمر صحفي عقده الأحد الماضي 24 سبتمبر، أما منظمة الصحة العالمية فتقول أن عدد ضحايا الكارثة حتى الآن أكثر من أربعة آلاف حالة وفاة، وهذا العدد يتعلق فقط بالذين سجلتهم وزارة الصحة حين تم دفنهم، وهو رقم مرشح للزيادة بشكل كبير خلال الأيام والأسابيع والشهور المقبلة مع تواصل عمليات البحث عن الجثث. ولا تُعرف على وجه الدقة أعداد الذين دُفنوا بشكل سريع، وفي مقابر جماعية في الأيام الأولى عقب كارثة الفيضان مخافة انتشار الأوبئة. وتزداد الصعوبات أمام فرق الإغاثة التي تواجه تحدي الوصول إلى الجثث البعيدة في أعماق البحر، وتحت ركام المباني المنهارة، أما الجهات الطبية والعدلية فأمامها مهمة تحديد هويات الموتى وتلك دونها عقبات فنية ولوچستية.

إضافة إلى ذلك تسببت الفيضانات في نزوح أكثر من 43 ألف شخص في درنة والمدن المجاورة بحسب أحدث إحصاء للمنظمة الدولية للهجرة. 30 ألفاً منهم من درنة، وفي الوقت الذي سجّلت فيه كارثة الفيضان تلاحم الليبيين الذين هبّوا بسياراتهم الخاصة من كل أنحاء البلاد لنجدة إخوتهم في الشرق الليبي عبر مبادرات فردية وأخرى تبنتها منظمات المجتمع المدني والهلال الأحمر والكشافة، جاءوا جميعاً أفراداً ومجموعات يُنجِدون إخوتهم بالمواد والمعدات الطبية والأدوية والأغطية والملابس وزجاجات المياه الصالحة للشرب، ورأينا الليبيين في مناطق مختلفة من ليبيا يجمعون التبرعات المالية، والملابس والأغطية، وتحولت برامج الراديو والقنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي بين الليبيين إلى سرادق كبير للعزاء، وسقطت كل الروايات السابقة عن صورة الشعب المنقسم، وقدم الليبيون صورة مشرقة للوحدة الوطنية التي عمل السياسيون والعسكريون وأعوانهم طيلة عقد من السنين على إحداث الشروخات والتصدعات فيها.

في نفس الوقت الذي كشفت فيه محنة درنة الوجه الآخر الذي كان مخفياً وهو وحدة هذا الشعب وروحه الأبيّة، فإنها فضحت فشل السلطات السياسية والعسكرية المنقسمة في الشرق والغرب وإخفاقها في التعاطي مع المأساة التي كانت أكبر من قدرات تلك السلطات، وكان الأمر يستوجب طلب العون الدولي من المنظمات الدولية ومن دول العالم بشكل عاجل، وهو الأمر الذي تقاعست عن القيام به حكومتا الشرق والغرب خلال الساعات الأولى من الكارثة، وبدلاً من أن تتوحد جهودهما بعد ذلك، ويتم تشكيل لجنة مركزية تتبعها لجان فرعية حتى يتم التخفيف من آلام وأوجاع أهالي الضحايا والنازحين والمتضررين المكلومين، وتسهيل مهمة الفرق العربية والأجنبية القادمة من أكثر من دولة الذين قدموا لتقديم العون والمساعدة، بدلاً من ذلك تشتتت الجهود، وتفرقت بين جهات عدة مما صعّب أعمال الإنقاذ، ومساعدة المتضررين. وتنافست السلطات السياسية في الشرق والغرب في توظيف المأساة في الدعاية لكل منهما. لقد ظنّ كثيرون وأولهم الليبيون أن المصائب ستجمع الفرقاء، فيتوحد جهد الحكومتين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ لكنّ شيئاً من ذلك لم يحصل حتى الآن. وقد صرح المبعوث الأممي إلى ليبيا باتيلي قائلاً «إن التنسيق بين حكومتي الشرق والغرب في ليبيا لم يكن بمستوى التضامن الشعبي غير المسبوق الذي شاهده العالم، ولم يرتقوا إلى مستوى اللحظة لتجاوز آثار الكارثة، وشدد باتيلي على ضرورة أن تجتمع السلطات من أجل إجراء تقييم مشترك لحاجيات الاستجابة العاجلة وإعادة البناء، مضيفاً أن الوقت قد حان لإعادة توحيد البلاد وتحصينها في مواجهة التحديات المستقبلية».

ووفقاً لبيان أهالي درنة المهجرين في فترات سابقة والمقيمين في طرابلس الذي أصدروه هذا الأسبوع فإن هناك من بين النازحين من درنة والمناطق المجاورة لها من يبيتون في المدارس، وهناك منهم من يبيتون في العراء وفي الطرقات، ومنهم عائلات يعيشون في بيت واحد، وكثيرون تم استقبالهم من قبل أقاربهم في المدن المنطقة الغربية وفي بنغازي، لكن الجهات الرسمية الشرقية والغربية لم تستجب لمطالبهم، ما يثبت أن المؤسسات الرسمية في الشرق والغرب أثبتت فشلها قبل وقوع الكارثة وبعدها.

ومع بلوغ هذه الأزمة الأسبوع الثالث منذ وقوع كارثة الفيضان ما زال مصير آلاف المفقودين مجهولاً، فيما يتطلع أهاليهم إلى الحصول على جثامينهم على أقل تقدير، ليتمكنوا من دفنهم بشكل لائق، بعد أن فقدوا الأمل في العثور عليهم أحياء. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن 63% من المستشفيات في تلك المناطق معطلة أو تعمل بشكل جزئي، وهناك حاجة ملحة لتقديم الخدمات الطبية لجميع المتضررين، خاصة في الجانب النفسي، فالألم النفسي لا يقل وجعاً عن الألم الجسدي، الأطفال والنساء والرجال الذين فقدوا ذويهم في حاجة ماسة إلى دعم نفسي طويل الأمد حتى يستطيع الكثيرون منهم استعادة عافيتهم وقدرتهم على مواصلة الحياة.

كما ينتظر أهالي درنة تحقيق مطالبهم التي أعلنوها في بيانهم الذي أصدروه خلال تظاهرة الأسبوع الماضي، والمتمثلة في ضرورة التحقيق في هذه المأساة منذ بدايتها، والإسراع بحل مشكلة النازحين بتوفير مساكن لهم داخل نطاق المدينة، وإقالة المجلس التسييري، وإحالته للتحقيق، واعتماد مجلس تسييري جديد يرضاه الأهالي. كما طالبوا أن تتم إعادة الإعمار في أسرع وقت ممكن عن طريق شركات عالمية متخصصة، بما يوافق المعايير الصحيحة التي تتناسب مع تراث المدينة التاريخي.

هذه المطالب العاجلة لم تستجب لها السلطات باستثناء إقالة المجلس التسييري لبلدية درنة، ولكن لم يتم تكليف مجلس تسييري بديل يتولى تنظيم عمل المؤسسات المحلية الخدمية: النظافة العامة، المياه والصرف الصحي، صيانة المدارس وتجهيزها لاستقبال التلاميذ، وحصر الأضرار، واحتياجات المجتمع الدرناوي. هناك حاجة ملحة لمجلس محلي بديل يتابع مع الجهات الرسمية كافة الإجراءات العاجلة المطلوبة للمتضررين من أبناء المدينة.

وكان مكتب النائب العام أعلن الإثنين الماضي تحريك دعوى جنائية ضد 16 مسؤولاً في إدارة مرفق السدود، وحبس ثمانية منهم احتياطياً، من بينهم عميد بلدية درنة، لكن الكثيرين يشككون في قدرة النائب العام على توجيه الاتهام إلى الرؤوس الكبيرة في السلطات الموجودة شرقاً وغرباً، ويرون أن هذه التحقيقات والإجراءات المتخذة ضد هؤلاء ليست سوى محاولات لامتصاص غضب الناس، ولذلك هناك مطالبات من نشطاء وصحفيين بأن تتولى التحقيقات في هذه القضية جهات دولية لضمان تحقيق نتائج ذات مصداقية، كما ينطبق هذا الأمر على عملية الإعمار التي نادى الأهالي بأن تتولاها شركات دولية.

لقد هب الليبيون فور سماعهم بأخبار كارثة الفيضان لنجدة إخوتهم في الشرق الليبي في تظاهرة كبيرة أطلقوا عليها «فزعة خوت»، وكانت مفاجأة للكثيرين، وقد أشادت بها وسائل الإعلام العربية والعالمية، لكن تداعيات هذه المأساة الكبيرة على أهالينا في درنة ومدن الجبل أكبر من أن تحتويها تلك الفزعة السريعة، وتحتاج إلى المزيد من الجهود من قبل منظمات المجتمع المدني وأجهزة الإعلام والكتاب والأدباء والإعلاميين والمثقفين، في ظل تقاعس وتخاذل السلطات الحكومية، إذ يجب أن يستمر الدعم والمناصرة وممارسة الضغوط على السلطات السياسية في الشرق والغرب، ومطالبتهم بتوحيد جهودهم من أجل حل المشاكل الناجمة عن هذه الكارثة، بما يضمن عودة هذه المدن لتكون صالحة للعيش، تتوفر فيها المساكن للمواطنين الذين دمرت بيوتهم، ومؤسسات صحية وتعليمية وخدمية وطرق ومياه وصرف صحي وكهرباء وإلى غير ذلك مما تتطلبه البنية التحتية لأي مدينة عصرية، ودعم المتضررين في مصادر رزقهم بما يساعدهم على العودة إلى ممارسة أنشطهم الاقتصادية التجارية والحرفية والزراعية والرعوية إلخ، الأمر الذي يسهم في تحقيق الاستقرار لسكان تلك المناطق واستعادة حياتهم الطبيعية في مدينتهم بدلا من تحويلهم إلى نازحين إلى الأبد في مدن أخرى.

في تقديري، هذه الكارثة التي حلت بمدن وقرى الجبل في الحادي عشر من سبتمبر الجاري، محطة مفصلية في تاريخ البلاد، فلا تتركوا درنة وما جاورها من مدن وقرى تواجه مصيرها وحدها. استعادة درنة لعافيتها هي الطريق لاستعادة عافية الوطن، وإذا تركت درنة وشقيقاتها تواجه مصيرها وحدها فقد يكون ذلك إيذاناً بدخول ليبيا في طريق اللاعودة.