Atwasat

ما بعد الطوفان

منصور بوشناف الأربعاء 20 سبتمبر 2023, 03:12 مساء
منصور بوشناف

ثمة حدوتة ليبية من ثمانينيات القرن الماضي وبالتحديد بعد «خط الموت وخليج سرت» تقول الحدوتة إن الأسطول الأميركي اقترب من شواطئ سرت مهدداً وبالطبع لم تكن الإمكانات الليبية قادرة على مواجهة تلك القوة، ولم يكن بحوزة ليبيا سلاح قد يردع هذه القوة المرعبة ولذا وكما تفعل القيادات وحتى الشعوب الضعيفة لجأت القيادة الليبية إلى فكرة استخدام قوى السحر وبركة الأولياء ولم يجدوا في تلك اللحظات الحرجة والحاسمة إلا «سلاح العين» فجمعوا أكبر المعيانين في ليبيا ووضعوهم على قارب سريع وأطلقوه بهم في اتجاه الأسطول الأميركي وأمروهم بأن يوجهوا سلاح عيونهم نحو سفن أسطول العدو لحرقه وتحطيمه كما كانوا يفعلون بنساء وأطفال وأموال بعضهم البعض.
وانطلق القارب كالسهم بتلك النخبة وهم يركزون أنظارهم بحثاًعن سفن العدو في البحر ليحرقوها بأسلحة عيونهم المدمرة.

أحد أولئك المعيانين كان يجلس بآخر القارب ولم يتمكن من إيجاد أي من سفن العدو أمام نظره فالتفت إلى الخلف غاضباً ورأى قوة وسرعة قاربهم والصدع العظيم الذي كان يتركه بالبحر فصرخ «أهو أهو الدق أهو الدق» وقبل أن يكمل جملته المشؤومة انفجر قارب المعيانين الليبيين وتطايروا في الهواء قبل أن يسقطوا في البحر، وتحول سلاحنا من قاتل للعدو لقاتل لنا، ومن أمل إلى نكبة ومن هجوم إلى انتحار.

والآن كيف تحولت الرياح القوية أو العاصفة إلى إعصار؟ كيف تحول الإعصار إلى «تسونامي» جرف مدينة اسمها درنة؟
كل المؤشرات تؤكد أن تحول الإعصار إلى تسونامي مدمر ضرب الناس والحجارة في درنة وأتى على أحياء كاملة منها وضحايا بالآلاف كان لنا «نحن» الليبيين وبالتحديد حكوماتنا وقادتنا الدور الأكبر فيه.

قادتنا وحكوماتنا ظلت دائماً تلعب هذا الدور «تحويل العواصف إلى تسونامي» منذ ما يزيد على نصف قرن من الآن، فلقد حولنا «إعصار» عواطف وشعارات التحرير والتطهير والعدالة والاشتراكية والوحدة إلى تسونامي دمر مشاريع النهضة والتحديث وأخذ آلاف الضحايا في معارك الأوهام والعبث وأوقف مشروع النهضة وترسيخ الكيان وبناء الدولة الحديثة. ليظل مشهد الجثث الليبية المتناثرة عبر الصحراء وعلى أعواد المشانق أو الطافية على مياه البحر المشهد الأكثر تكرراً في ذاكرتنا، منذ جثث أجدادنا في الصحراء الكبرى أيام الغزو الإيطالي أو الاحتلال التركي إلى جثث أصدقائنا وإخوتنا وأبنائنا في صحاري تشاد وغابات أوغندا إلى جثث أبنائنا على مشانق الجامعة إلى جثث أبنائنا ملقاة في الشوارع ومكبات الزبالة منذ 2011، وإلى جثث ضحايا درنة والمرج والبيضاء وسوسة اليوم.

تصعيد الأزمات وتحويلها إلى كوارث مدمرة كان أحد مظاهر حركة قادتنا وحكوماتنا عبر هذه العقود الدامية.

فتسونامي درنة كان يمكن أن يكون عاصفة لها أضرار لا تصل إلى هذا الحد كما يؤكد غالبية العارفين، ولكن تسونامي الفساد الذي يحرسه ويحميه السلاح المنفلت كان لا بد له من إنجاز هذه المجزرة بالضبط كما حول انتفاضة الناس من أجل حياة أكثر كرامة وحرية وعدالة إلى حرب أهلية، وإلى تسونامي اجتماعي أهلك الزرع والضرع، وحولنا إلى قبائل متقاتلة بالمدافع والطائرات والدبابات ومغذاة بالفتاوى والنظريات السياسية.

عاصفة العواطف الصادقة والمعبرة حقاً عن الليبيين «الشعب الواحد» وتضامنهم الكبير الذي أظهرته فاجعة درنة والجبل الأخضر، إن لم تجد قيادة تضعها في المسار الصحيح وتوظفها للم الشمل ومحاسبة المجرمين والفاسدين الذين حولوا عاصفة «طبيعية» إلى تسونامي مدمر للخروج بالبلاد وبدرنة أولاً من تحت رديم وأنقاض الخراب والفساد، إلى شمس العدالة والحرية، فإن عاصفة العواطف النبيلة قد تتحول إلى تسونامي مدمر من الانتقام والكراهية.