Atwasat

صراع الخيمة والقصر: الحداثة المشوهة

إبراهيم حميدان الخميس 24 أغسطس 2023, 06:48 مساء
إبراهيم حميدان

الدكتور مصطفى عمر التير عالم الاجتماع الليبي عُرِف بإسهاماته البحثية وكتاباته العلمية ومشاركاته في الندوات والمؤتمرات في ليبيا وخارجها، وهو باحث نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة مينيسوتا الأمريكية (1971) ودرّس في جامعات ليبية وأميركية مختلفة، وكان مديرًا لمعهد الإنماء العربي، وقد أصدر عدة مؤلفات في علم الاجتماع، من بينها كتابه «صراع الخيمة والقصر: رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي» الصادر عن دار المعارف 2014 الذي يتناول فيه مسيرة تحديث المجتمع الليبي التي يرى أنها بدأت على نطاق ضيق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اقتطع منها الكاتب حقبة معينة ليدرسها في هذا الكتاب، وهي الحقبة التي بدأت بالانقلاب العسكري في اليوم الأول من شهر سبتمبر 1969.

لقد غاب القذافي عن الحياة الدنيا لكن آثاره ستبقى في المجتمع الليبي لفترة قد تكون طويلة، يقول المؤلف، وهو لا يعني هنا الآثار المادية بل التغير الذي أحدثه في نسق القيم والذي ستبقى تداعياته في ممارسات سلوكية لدى كم غير قليل من جيل تربى خلال فترة حكمه، وهذا ما قصده من عنوان كتابه «صراع الخيمة والقصر» وهو صراع بين نسقين مختلفين من القيم الثقافية انعكس سلبًا على مسيرة التحديث في هذا المجتمع.

«منظور الحداثة في فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع» هذا هو عنوان الفصل الأول الذي يعتبر المؤلف في بدايته أن العهد العثماني الثاني يُمثّل بداية تعرّف الليبيين على بعض المؤسسات التي تُعتبر ضمن برنامج تحديث المجتمع مثل المدرسة الحديثة، والمؤسسة الصحية، ونظام البلديات، والصحف إلخ، لكنها كانت معرفة جد متواضعة بسبب تركز هذه المؤسسات في مناطق استيطانية محدودة، ثم كانت الصدمة الحضارية مع الغزو الإيطالي فتعرف الليبيون على أحدث منجزات التقانة، انحصرت الأولى منها في معدات الحرب والتدمير، إلا أنها ما لبثت أن شملت مختلف الأنواع التي كانت متوفرة في القرن العشرين، وقد توسع المستعمر الإيطالي في نشر مظاهر التحديث في المجالات كافة: الطرق، والتعليم، والصحة، والوحدات السكنية، والبنوك إلخ، لكنها كانت لصالح المستوطنين الإيطاليين، وبالتالي فإن انتشار الأفكار والمظاهر المادية التي تُعبّر عن ظاهرة التحديث خلال العهد الإيطالي كان محدودًا، انحصر في عدد صغير من الليبيين الذين حصلوا على وظائف حكومية من مدرسين، وقُضاة، وكتبة، ورجال أمن، وأفراد القوات المسلحة، فنسبة كبيرة من الليبيين لم تقبل على التعليم الإيطالي رفضًا لثقافة المستعمر.

القسم الثاني من هذا الفصل الذي حمل عنوان «وصف وتفسير التغير الاجتماعي في منظور مدرسة التحديث» يُسلّط الضوء على أهم المساهمات النظرية التي اهتم بها الباحثون في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية، مثل الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، وعلم الإناسة، وعلم النفس، بدراسة التغير الاجتماعي.

الفصل الثاني جاء بعنوان «مسيرة تحديث المجتمع الليبي» في القسم الأول من هذا الفصل الذي حمل عنوان «البدايات الأولى لتحديث المجتمع الليبي: حركة الانتقال الجماعي للسكان من الريف إلى المدينة» يتطرق المؤلف إلى مسيرة التحديث ابتداءً من استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951 في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة؛ حيث صُنّفت ليبيا من أفقر دول العالم، وقال يومها بعض الاقتصاديين الذين أتيحت لهم فرصة التعرف على ظروف البلاد في ذلك الحين: إن هذا البلد لا مستقبل له. ورغم ذلك صَمّم الليبيون على بناء بلد يطمح إلى أن يكون له مكان في الدول الحديثة، وسَهّل اكتشاف النفط بكميات كبيرة المهمة، فوِضِع الدستور وُسنّت القوانين وبُنِيت المؤسسات التي تلائم العصر ووضِعت سياسات للتوسع في التعليم، مع الاهتمام ببناء الوحدات الصحية الحديثة.

يُشيد المؤلف بتجربة التحديث خلال العهد الملكي، لكنه يسجل نقاطًا سلبية يرى أنها قد تكون من بين أسباب سقوط ذلك العهد وهي: رفض الملك لفكرة الأحزاب وتعدد النشاط السياسي، وكان خطؤه الثاني، اختياره لولي عهد غير مُؤهل، ولا يتمتع بمعرفة أو خبرة، أما ثالث تلك الأخطاء، فقد تمثل في تقريبه لعناصر تقليدية، لبعضها تاريخ غير مشرف من حيث الدور الذي قامت به أثناء مرحلة الجهاد ضد الاستعمار، ويمثل الخطأ الرابع، تدخل الحاشية الملكية في تسيير أمور الدولة، وتأثيرها على قرارات الملك بشأن أهم تلك الأمور بما في ذلك إقالة الحكومات وتشكيلها.

وفي القسم الثاني من هذا الفصل الذي حمل عنوان «مرحلة التغيير المبرمج» يتطرق المؤلف إلى انقلاب الأول من سبتمبر1969 ويقدم تفسيرات عديدة لترحيب فئات واسعة من الشعب الليبي بذلك الانقلاب، من بينها تأثر قطاعات واسعة من الليبيين بالخطاب القومي العروبي القادم من مصر، ووعود الانقلابيين البراقة التي تمثل تطلعات الليبيين في كل مكان: رفع الظلم، محاربة الفساد، إقامة العدل والمساواة.

ومنذ الأيام الأولى للانقلاب بدا واضحًا أن معمر القذافي هو القائد المطلق لمجموعة الضباط أعضاء مجلس قيادة الثورة كما أطلقوا على أنفسهم، ولم يكن هذا المجلس إلا هيكلًا شكليًا اقتصر دور أعضائه على تنفيذ الأوامر التي يتلقونها منه، فقرر ونفذ برنامجه ضمن ثلاث خطوات رئيسية: خطاب زوارة، ثورة الطلاب، اللجان الثورية، ومن خلال هذه المراحل الثلاث نجح في تغيير نظام إدارة البلاد، وفي إحداث خلخلة في نسق القيم، ومن ثم إحداث تغييرات في الثقافة السائدة التي شكلت فيما بعد نمطًا مختلفًا من التحديث أطلق عليه المؤلف نموذج انتصار الخيمة على القصر.

الفصل الثالث حمل عنوان «الطريق نحو الحداثة» يوضح فيه الباحث كيف حول القذافي شعار «وانتصرت الخيمة على القصر» الذي رفعه في بداية الانقلاب إلى واقع يومي يتم تكريسه عبر الممارسة اليومية؛ حيث أصبحت الخيمة مؤسسة وجيشًا من العاملين وتنقل بالطائرات عندما أصبح القذافي يصر على أن تنصب خيمته في كل مدينة ينتقل إليها.

يُحدد المؤلف عوامل تعثر التحول نحو الحداثة في أربع نقاط: نموذج المجتمع الريعي، ترييف المدينة، تخلف التعليم وعسكرته، برنامج ذوبان الشخصية في الجماعة.

وفي الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان «الليبيون والقابلية للاستتباع» يتساءل المؤلف: لماذا تقبّل الليبيون حكم معمر القذافي الذي امتد على مدى 42 عامًا وجعل البلاد حقل تجارب ما أدى إلى تداعيات سلبية على حياة الناس؟
يستعير المؤلف مصطلح «القابلية للاستعمار» الذي أطلقه المفكر الجزائري مالك بن نبي ليفسر ما بدا له من قبول فئة من الجزائريين للاستعمار بل والتعاون معه، يستعيره ويجري عليه تعديلًا بسيطًا فيصبح «القابلية للاستتباع» ليتحدث عن الأغلبية الصامتة من الليبيين التي بدت غير عابئة بما يفعله القذافي من عبث في المجتمع.

يفترض المؤلف أن عوامل بعينها توفرت في المجتمع الليبي ساعدت على أن ينجح القذافي في فرض برنامجه، وتقبل الليبيين لبرنامجه رغم غرابته، يراها المؤلف في الآتي:
المَلكية: التكوين والانهيار، ويرصد خلالها مسيرة العهد الملكي منذ ظهوره وحتى سقوطه في الأول من سبتمبر ومسؤولية الملك عن هذا.
القذافي: التاريخ والرمز وعالم الأوهام، تحت هذا العنوان يتناول المؤلف بالتحليل شخصية القذافي الذي حكم البلاد 42 عامًا وكاد يجعله نظامًا وراثيًا.
بالإضافة إلى ما يُسميه المؤلف بالظروف السياسية الخاصة، وهي ظروف السياسة الداخلية والسياسة الخارجية.
الفصل الأخير من الكتاب حمل عنوان «نمط حداثة صراع الخيمة والقصر أو الحداثة المشوهة».

يقول المؤلف إن تحليل ما جرى خلال العقود الأربعة الماضية أنتج حداثة هجينة، فلقد انتشر التعليم لكن تأثيره كان محدودًا، ولم يتجاوز في حالة الكثيرين المظهر الخارجي؛ بل إن الذي حدث في السنوات الأخيرة أن هناك عودة وبقوة إلى الكثير من القيم التقليدية خاصة فيما يتعلق بالنظر إلى المرأة ومكانتها الاجتماعية ولأدوارها الاجتماعية.

وتحت عنوان «مكونات الشخصية الليبية» يُحدّد المؤلف أهم خصائص هذه الشخصية ويراها في النقاط التالية:
- غياب المبادرة واستبطان الاتكالية.
- الخوف.
- التقليد بدلًا من الابتكار.
- التعصب للرأي الخاص.
- الهروب نحو الماضي.
- تداخل العام والخاص أو الدمج بين العلاقات الرسمية والعلاقات غير الرسمية.

يختتم المؤلف بالإشارة إلى الشعار الكبير الذي رُفِع في مختلف أنحاء ليبيا عقب انتفاضة 17فبراير 2011: بناء دولة حديثة تعمل على ترسيخ قيم الديمقراطية في السياسة وفي بقية المجالات التي لها علاقة بتربية المواطن تربية جيدة.

إن أبسط الأشياء هي رفع الشعارات، لكن الصعوبة تكمن في إنزال الشعار من مستوى التمنيات إلى مستوى التطبيق العملي على أرض الواقع. للديمقراطية قيم يفترض تشربها واحترامها ونشرها وهي قيم تغطي جانبًا من قيم الحداثة. لذلك ليس بالإمكان - كما يؤكد المؤلف - بناء الديمقراطية في مجتمع من المجتمعات قبل أن يكتسب أفراد المجتمع، أو نسبة كبيرة منهم قيم الحداثة، ثم إن الحداثة عبارة عن مسيرة لها مراحل وتتطلب زمنًا ويفترض أن تقود كل مرحلة إلى التي تليها وهكذا. والمرحلة الأولى - كما يضيف المؤلف - ضمن سلسلة المراحل التي تتطلبها عملية التحول نحو الحداثة بدأت فعلًا، لكن المراحل التالية لم تتحقق بسبب الظروف التي مرّ بها المجتمع خلال الأربعة عقود الأخيرة. وبما أن الديمقراطية ترتبط بالحداثة ارتباطًا موجبًا، فلن يحدث تحول نحو الديمقراطية في المجتمع الذي تتوقف فيه مسيرة التحول نحو الحداثة، لكن قد تتوفر ظروف داخلية خلال زمن معين تُشجع على تطبيق عدد من المهام المرتبطة بالديمقراطية السياسية من تعددية حزبية ومجتمع مدني وانتخابات برلمانية ورئاسية، وبعبارة أخرى مظاهر الليبرالية السياسية. قد تُفرض هذه من الخارج كالدور الذي يقوم به الغرب حاليًا.

وإلى أن يتحقق هذا ستكون الحداثة المُشوّهة هي أنسب ما يمكن أن توصف به المسيرة الليبية في الطريق نحو الحداثة، وسيبقى المشروع الحداثي الليبي لدى الطامحين في إنجازه هدفًا بعيد المنال.
يُمثّل الكتاب قراءة تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية في المجتمع الليبي، منذ تشكل الدولة الليبية أوائل الخمسينات وحتى 17 فبراير2011، وإن توقف المؤلف بشكل تفصيلي في مرحلة حكم العقيد القذافي ما يجعل هذا الكتاب ضمن الكتب التي تناولت سيرة وشخصية هذا الديكتاتور، ولكن هذه المرة بقلم عالم اجتماع يُوضِح لنا كيف نظر متخصص في علم الاجتماع لمسيرة مجتمع خضع لحاكم ديكتاتور لمدة أربعين عامًا، كان للفترة الطويلة التي حكم فيها البلاد، والظروف التي صاحبتها، وخاصة الثروة الناتجة عن بيع النفط الخام، كان لها دور في أن يكون تأثيره في مجرى الأحداث في ليبيا قويًا ومن نوع خاص.