Atwasat

أبناء الملح

سالم الهنداوي الخميس 10 أغسطس 2023, 05:28 مساء
سالم الهنداوي

..ليتنا لم نتذمَّر يومًا من حالة العوز التي كُنَّا نعيشها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وكانت سببًا في انتقال بعض جيراننا إلى مناطق بعيدة لا نعرفها، ولم نعُد نراهم إلَّا صدفة في أماكن أخرى راقية ذات شوارع نظيفة واسعة ومبانٍ كبيرة عالية تحيط بها حدائق ومحال فاخرة، حتى لتبدو عليهم مظاهر الرفاهية بعد أن ودَّعوا أكوام الملح في سبخة «السلماني» وغُبار الشمس في «اخريبيش» وتركوا لنا كلاب الخرابات، وسكارى شارع الشطشاط، ورمال توريللي، وبحر الشابي والمنقار، وأصبحوا يقصدون ملعب الغولف، ومصيف جليانة البعيد بلباس سبورت، وشباشب ناعمة، وقبَّعات أنيقة، ونظارات سوداء، ومظلات كبيرة ملوَّنة، يجلسون على مقاعد خشبية طويلة مثل الأجانب، يحتسون العصائر الباردة، وينظرون إلى أقصى الشمال في زرقة البحر والسماء؛ حيث طريق السُفن العابرة من بعيد، وسباقات الزوارق الشراعية؛ وحيث تحلِّق النوارس وراء الريفيرا شرقًا باتجاه الميناء..

..كان الأذى عميقًا في نفوسنا الصغيرة وهُم يهربون منَّا ومن العوم معنا في بير الكلبة وبير الجمل، ومن لعب الكرة في ملعب الستاك بمدرسة النهضة الذي صنع نجوم «التحدي» و«الأهلي»، ومن ألعابنا القديمة التي عشناها وعاشتنا في المواسم كالطقيرة، والزغادي، والبطش، والتصاوير، وتأجير الدرَّاجات من سي عوض الفونشة، فصاروا يملكون الدرَّاجات الجديدة ويستقلونها إلى الكابترانية وبياسا كاني ويلعبون الهيلا هوب في أحيائهم الراقية مع بنات الأجانب، كما تركوا لنا مقاعدنا الخشبية البالية في سينما هايتي وسينما الاستقلال، ودخلوا سينما ركس وبرنيتشي بأكياس الفُشار واللب النظيف، وجلسوا على المقاعد الفخمة ذات القطيفة الحمراء، وفي عشيَّات حديقة الخيَّام يلعبون الطائرات الورقية، ويتناولون الآيس كريم الفاخر بملاعق البلاستيك الملوَّنة، وما عادوا يتذكَّرون ألسنتنا وشفاهنا المتشققة من أثر الملح وهي تلعق بنهم طرابيش «جولاطي تربل» و«بزّع روّح بالخلّاطة» تلك القطعة من الثلج الصافي المشبعة بالأصباغ.. ما عادوا يذكرون أبواب بيوتنا القديمة وأزقتنا الغابرة بحيطانها المتآكلة، ولا صهيل حصان القويّد، ولا كرّوسة اعميرينة المتهالكة وحماره الذي يتمرَّغ على التراب في القيلولة، ولا أصوات بائعات الفول الصباحي ولا سحلب عمِّي بركات، ولا عربة الورّاد بوشعالة، ولا الكنّاس جاب الله؛ ذلك الأفريقي الأسمر فارع الطول الذي يكنس الشارع بالعرجون، ويطرق الأبواب مبتسمًا وهو يقول: «راكم تقولوا ما جاء أخد الكناسة»..

ذهبوا هُم إلى الظلال النظيفة بلا نداءات، وبقينا نحن في اخريبيش علامة باقية تحت الشمس مثل نبات السبخة العنيد، وحياة عارية مثل السمسيم نجرح الأيام وتجرحنا، نعطش ونجوع وننام على الحصيرة، لكنّنا كُنّا نستمتع بصوت البحر القريب، وبرائحته التي تأخذ ليلنا إلى الصّباح بلا أحلام، فيما هُم ينامون بأحلامهم ويستيقظون على أصوات العصافير على النوافذ والأشجار، ويفطرون على الخبزة الإفرنجية والمُربّى بالزبدة من ماركت الإنجليز، بينما نحن نصحو كالفئران البائسة، نرفع غطاء الطبق بحذر ونقضم الخبز الناشف، وبكرعة حليب بالشاي نقفز إلى الشارع كالجراء.

.. تذكَّرتُ أن بعض الجيران في اخريبيش كانوا من الخواجات لمظاهر الثراء في حياتهم، وطريقة عيشهم، ولباسهم، وامتلاكهم للسيَّارات، وعدم اختلاطهم بالناس، وكانت بيوتهم كبيرة ومؤثثة كبيوت الأتراك، وبها ستائر وثلاجات، وماكينات خياطة، وأغلبهم ينحدرون من الباشوية التركية، ويملكون الأراضي، والمزارع في أطراف المدينة، وآخرون يعملون في البنوك، وتجارة الأقمشة، والذهب، فنساؤهم بدينات وبيضاوات كالحليب، يمضين الوقت في الخياطة، ويرتدين الملابس الإفرنجية بشعرهن القصير كنساء الإنجليز واليهود، بعكس أمهاتنا السمراوات المنحدرات من الأرياف بشعرهن الطويل، يرتدين المحارم والأردية الشعبية ويزيّن وجوههن الوشم الداكن كما مجاهدات معتقل العقيلة..

.. حتى أبناؤهم ذوو بشرة بيضاء من جلدات أمهاتهم ويخشون الشمس، بعكسنا تمامًا نحن الذين أنجبتنا أمهاتنا على الملح تحت الشمس.. كُنّا نراهم أبناء الظل يخرجون من منطقتنا بلباسهم النظيف ولا نعرف متى يعودون في المساء.. أحدهم وأنا على درّاجتي «الكحيانة» مررتُ به في القايلة عند الشوكات بمدخل شارع البعجة يرتدي قيافة أشبال الكشافة الزاهية بشعار الزنبقة، بالمنديل الأصفر والحزام الجلدي والقبّعة الخضراء بخطوطها الصفراء اللافتة، فعزمتُ عليه أن أوصله إلى حيث يريد، فاستأنس لي وركب أمامي الدرّاجة وانطلقنا مع الدردوحة حتى عبرنا شارع كويري وأنا أردِّد بصوت خفيض مع كُل بيدلة «كشاف مرة كشاف للأبد»، وعند مدرسة الأميرة توجّهنا يمينًا إلى الميدان الفسيح حيث ضريح عمر المختار، وبمجرّد دخولنا شارع عمرو بن العاص أشار بيده البيضاء الناعمة التي لا تشبه يدي في شيء وتوجّهنا يسارًا، فإذا بنا نصل حي السكابلي لينزل أمام بيت كبير نظيف له عتبتا رخام ومزهريتا ورد، حين وقفتُ أمامه تسرّبت برودة منعشة أحسستُ خلالها بالعطش، فنظر إليَّ وأنا أتفصّد العرق، وقال بصوته الهادئ: لحظة انجيبلك امّيه.. كانت المرة الأولى التي أمسك فيها بكأس زجاج شفاف بارد، تركتُ الكوب في يده ودلقتُ الماء رأسًا من الكأس حتى ارتويت وسكبتُ البقية على رأسي، كان الماء عذبًا بطعم الزهر، وفيما غمرني الهواء البارد أمام البيت غلبني شيء خدر يشبه النُعاس، فودّعته وأنا أغادر الظل وشوارع السكابلي باتجاه اخريبيش وفي حلقي طعم الزهر البارد، وفيما قطعت "شارع بوغولة" ودخلتُ شارع البعجة صادفني صاحبي العرمة أمام بيته بصلعته وصدره العاري وناداني قائلًا: «تعال عطيني ادجيرّو»، لكنّي انطلقت إلى شارعنا مسرعًا وقد ضاع الظل وتلك البرودة التي أنعشتني في السكابلي وضاعت معها خواطري في الطريق.

.. في ذلك الصيف تحديدًا من عام 1965 رحل جاري صديقي عبد الله الريشي مع أهله، وضعوا كُل أثاثهم على كارو ورحلوا في صمت وقد تركوا بيتهم الكبير مهجورًا.. ذلك البيت لم يعُد لنا ندخله ساعة نشاء ونطلب الثلج.. ضاق بنا الشارع لحدّ الحزن، ومنذ ذلك الوداع لم أره ولم نعُد نسمع عنهم شيئًا.. كُل من رحل عن شارعنا بعد ذلك ترك طفولته بيننا، وحتى نحن مع الزمن تركناها هناك لصغار لن يكونوا أبدًا مثلنا أبناء الملح وقد انهدم ذلك الحي في خواء الروح، ليبقى في ذاكرتنا ماثلًا كما تلك المنارة الشاهدة على ذلك الزمن.