Atwasat

شاحنة الوقود

منصور بوشناف الأربعاء 02 أغسطس 2023, 04:32 مساء
منصور بوشناف

في لحظة ما، لحظة فاصلة بين ما كان وما سوف يكون، تنحرف شاحنة الوقود عن مسارها لتصل بشكل أسرع، تترك أو يترك سائقها الطريق المعروف والآمن إلى طريق فرعي مجهول وغير معبد.

شاحنة الوقود كانت في رحلة عبر الصحراء الليبية محملة بالبنزين إلى واحة في تلك الصحراء المترامية الأطراف والغنية بمخزونات الماء والنفط.

الشاحنة الكبيرة كانت قد انطلقت من طرابلس، يقودها كهل جاوز الخمسين عاماً من عمره ومعه مساعد شاب لا يعرف من البلاد إلا طرابلس والأزياء والموسيقى الحديثة ووفرة الماء والبنزين بالسعر الليبي البخس، الكهل يبدو متوجساً من الحاضر، ورغم معرفته بالصحراء فإنه يخافها ويخاف الموت عطشاً حتى وهو في طرابلس، حيث يرى الليبيين وهم يبددون الماء باستهتار غريب.

بدل الوصول إلى الواحة وإيصال البنزين لها تتوه شاحنة الوقود في متاهات طرق الصحراء، في لحظات مرعبة يدرك السائق أنه أضاع الطريق وضيع الشاحنة والشاب الذي معه والذي كان يراه سائق المستقبل لشاحنة الوقود.

يستظلان بظل الشاحنة في انتظار النجدة ولكنها لا تأتي، يمضي يومان ويوشك مخزونهما من الماء أن ينفد ليكون الموت عطشاً تحت شاحنة ضخمة وعاطلة وعلى متنها خزان بنزين هائل لا قيمة له بعد نفاد الماء.

في اليوم الثالت ينطلق الكهل بحثاً عن منقذ لإنقاذ الشاحنة والشاب والبنزين، يتوه في الصحراء ليومين ثم يسقط منهكاً ومشرفاً على الموت عطشاً وحسرة على الشاب والشاحنة والبنزين.

الشاب القليل الخبرة بالصحراء والعاجز عن مقاومة العطش ورغم تحذير الكهل له بألا يبتعد عن الشاحنة مهما حدث لا يستطيع الانتظار أكثر بل يدفعه العطش إلى المضي بحثاً عن ماء وعن منقذ، يتوه متعثراً عطشاً، لا يرى شيئاً بوضوح، فكل ما حوله متاهة وعطش ليسقط غير بعيد عن شاحنة الوقود المتوقفة ويموت عطشاً.

فريق من جهاز النهر الصناعي يعثر على السائق الكهل وأنقذه من الموت ولكنهم يجدون الشاب ميتاً غير بعيد عن شاحنة الوقود المتوقفة.

تلك حدوتة «فيلم سائق الشاحنة» للمخرج الراحل «محمد أبوبكر سويسي» الذي نفذه في تسعينيات القرن الماضي، وهي حدوتة تلخص على نحو بليغ مستقبل ليبيا الحديثة، ليبيا النفط، حيث لم تعد البلاد إلا شاحنة وقود تائهة في الصحراء يقودها كهل يريد الوصول سريعاً إلى هدفه فتضيع الشاحنة والشاب والمستقبل في متاهات الصحراء فحتى وإن أنقذ فريق النهر الصناعي الكهل وحاول إصلاح الشاحنة إلا أن سائق المستقبل مات عطشاً تائهاً في الصحراء، ليعود الكهل إلى طرابلس ويتابع بعينيه مذهولاً ومرتعباً تبديد ثروات الماء باستهتار قاتل، يرى المستقبل وهو يُقتل فيما يشبه الانتحار الجماعي.

ليبيا شاحنة الوقود كما صورها المخرج «محمد أبوبكر سويسي» منذ ربع قرن تقريباً في هذا الفيلم التلفزيوني لا تزال تنطلق بسرعة لتصل إلى مصيرها، تعبر المدن والقرى، يتوقف قائدها الكهل أمام مسجد ليؤدي صلاة هي أقرب لصلاة جنازة، فما إن يُكبر الكهل للصلاة حتى تنتقل الكاميرا إلى الشاب وهو يغتسل بمياه المسجد ويظهر متربصاً به، خلفه تماماً تابوت منتظراً موته، لتنطلق شاحنة الوقود بعد هذا المشهد وتتوغل في الصحراء والسراب، تتوه، تضيع، تتعطل، تتوقف مستسلمة ومسلمة مصيرها للصحراء والعطش.

كان إيقاع الفيلم سريعاً، تتوالى لقطات توغل شاحنة الوقود في المتاهة، لتسكن وتهدأ مع توقف الشاحنة ويبدأ الانتظار، انتظار الإنقاذ وانتظار الانهيار والموت.

مشاهد الفيلم الأخيرة ليست إلا تحسراً وبكاءً مراً على جيل شاب محكوم بالموت، على مستقبل التيه، الذي يظلل شوارع طرابلس بظلاله الجنائزية.
فيلم الراحل «محمد أبوبكر سويسي» يقول منذ ربع قرن مضى «إن ليبيا إن ظلت شاحنة وقود لاغير فلا مستقبل لها».

بالطبع رسالة الفيلم لم تصل إلى حد الآن بل شرعت أعيرة النار التي يتسلى بها كهول ليبيا الجدد تتطاير وتصيب الشاحنة وخزان الوقود وتقتل سائق المستقبل الشاب..

قام بدور السائق الكهل الفنان القدير «محمد الطاهر» وقام بدور الشاب «الفنان محمد عثمان» القدير الآن أيضاً.