Atwasat

معطف الشمال.. زمهرير الجنوب

منصور بوشناف الأربعاء 19 يوليو 2023, 04:20 مساء
منصور بوشناف

من الرحم الطرابلسي يخرج الفتى «يوسف الشريف» متدثرا بمعطف الشمال، قاصدا أقاصي الجنوب، في رحلة عكس رحلات الليبيّين في ذلك الوقت، حيث كان «هجيج» تخوم الصحراء وأقاصي الجنوب يتدفقون باتجاه الشمال، طلبا للعيش وضمانا للمستقبل، فالمستقبل الليبي عندها كان يتشكّل في الشمال ومدنه. ربما ليكون ذلك الفتى من القلائل جدا الذين مضوا في تلك الرحلة والتجربة. تجربة أن تشد الرحال باتجاه الجنوب زمن الهجرة باتجاه الشمال.

فتى طرابلس الغض لم يعرف من الأرض والناس إلا طرابلس وأهلها، ولم يخبر من الحياة إلا حياة طرابلس المدينة التي كانت، على الرغم من كل الفقر والأمية، قد شرعت تحلم، وتعد لمستقبل أفضل ليس لها ولأهلها فقط، بل للبلاد كلها.

كانت طرابلس ما بعد الحرب تنفض عن كيانها آثار تلك الحرب، وقد أخرجت من أنقاض الحرب بعض ما يمكن استخدامه لمواصلة الحياة.

من تلك الأنقاض ومخلفاتها كان بطلان من أبطال هذه السيرة وهذا الكتاب، وهما المعطف والشاحنة اللذان رافقا بطل هذه السيرة الرئيسي، أعني فتى طرابلس الماضي باتجاه الجنوب.
كانت المعاطف أحد مكاسب الفقراء الليبيّين الظاهرة من الحرب العالمية الثانية، وربما كان الغالب منها هو المعطف العسكري الإنجليزي الذي دثر الكثير من الليبيّين لسنوات طويلة، بالتحديد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى وصول أولى دفعات مبيعات النفط للبلاد.

المعطف الذي كان العدة التي أعدها الأب لابنه، ليواجه بها زمهرير ليل الصحراء، والذي كان بالتأكيد ثقيلا كالمسؤولية التي ألقيت على كاهل الفتى الصغير، كان إنجليزيا خرج من الحرب بالتأكيد، كما خرجت طرابلس وليبيا، ليواصل على ظهر مقاتل آخر معركة أخرى.

المعطف أيضا سيرسم مصير ذاك الفتى ومستقبله ومشروعه الأهم، أعني كتابة القصة القصيرة «خارجا كغيره من كتابها في العالم من معطف جوجول»، كما تقول تواريخ القصة القصيرة العالمية، ناسجا بعد تجربة طويلة وشاقة معطفه القصصي الخاص الذي سيمنح ليبيا وطرابلس مع معاطف ليبية أخرى نسيجها القصصي الخاص.

الشاحنة، كما المعطف، كانت أحد مكاسب الليبيّين المهمة من الحرب، حيث شرع الليبيّون في تجميع وإصلاح خردة الحرب العالمية الثانية من الشاحنات الكبيرة والصغيرة، وتحوّلت طرابلس إلى ورشة، لصيانتها وإصلاح أعطالها، لينطلقوا بها من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وليحولوها من آلات دمار وحرب إلى وسائل مواصلات وتواصل، ولتكون أحد أبطال هذه السيرة وهذا الكتاب، فهي لم تحمل البطل إلى أقصى الجنوب في رحلة شاقة، بل ظلت تصله بطرابلس، وبأهم عناصر الحياة الحديثة، من طعام وأخبار وجرائد، ومجلات أيضا.

إن الشاحنة، التي ربما حملت الأسلحة والذخائر للقتل حتى أقصى الجنوب يوما ما من أيام الحرب، تتحول في هذه السيرة إلى حاملة للعلم والمعرفة والكتاب والطعام والكساء والدواء، وحتى المذياع، إسهاما في تأسيس كيان جديد، ووطن أكثر إنسانية ومطامح.

متعلما ومُدثرا بمعطف ثقيل، وعلى شاحنة متهالكة، ولكنها تسير بإرادة وإصرار سائق يعتبر هو أيضا مكسبا من مكاسب الحرب والاستعمار، يمضي الفتى في رحلة شاقة، ليس للسياحة بالتأكيد، بل كمكلف بإيصال رسالة المستقبل «التعليم».

لم يتطوع لإيصالها، كما قد يفعل رومانتيكي حالم، بل اختارته ظروف الفقر، وطموحات تحسين مستوى المعيشة، والمشاركة في بناء مستقبل الأسرة مبكرا، وتحمل المسؤولية. كل تلك الظروف جعلت ذاك الفتى أحد رواد مشروع التأسيس والنهضة في هذا الكيان الناهض من تحت أنقاض عصور طويلة من الاستعمار والأمية والفقر والمرض.

الرحلة من طرابلس نحو «أيامه الجنوبية» بقدر ما كانت شاقة ومتعبة كانت أيضا فرصة لاكتشاف البلاد، وذلك مرورا بجزء من ساحلها ومدنها، ثم توغلا في صحرائها، ومرورا ببعض واحاتها، قبل الوصول إلى وجهته، حيث سيعيش «أيامه الجنوبية».

الجنوب الذي لم يكن يعرف عنه إلا القليل من المعلومات والحكايات، وربما بعض الجنوبيين في طرابلس، بدا في عيني الفتى ليس غريبا تماما، فعلى الرغم من خجله الطفولي، وارتباكه في البداية، فإنه وبإصرار أهل الجنوب وودهم يجد نفسه بينهم، وجزءا منهم، بل يُعامل كأحد الكبار، فمهنة المعلم تمنحه مكانة ممتازة بينهم.

الحياة الجنوبية، كما تظهر في هذه السيرة في تلك الأيام، تبدو شديدة الفقر، وتعتمد في حياتها على ما يصلها من الشمال من سلع، وحتى أخبار، مما جعل تلك الشاحنة أهم عناصر استمرار الحياة هناك. تصور هذه السيرة ما نتج عن تأخرها لفترة طويلة، من ضيق وشح في الكثير من مقومات الحياة وضروراتها هناك.

كُتبت هذه السيرة كما لو كانت مفتتحا ليس لسيرة يوسف الشريف فقط، بل لسيرة الجنوب في العصر الحديث، بداية تشكل «الجنوب» الحديث وطموحات نهوضه. إنها أقرب إلى مفتتح المعلقات العربية القديمة، أعني «الوقوف على الأطلال»، حيث زمن الكتابة هو زمن المرور بتلك الأطلال وتذكرها، لتنهمر الصور والذكريات نابضة بالحياة بكل ما في تلك الحياة من آلام وأمال. ذلك «الوقوف» الذي كان المدخل للتجربة في الشعر العربي القديم، وأيضا لأدب السيرة، فالسارد أو الراوي لا بد أن يدخل سيرته عبر هذا المدخل «وقوفا بها» مع صحبه من القراء، لتتداعى كل صور التجربة.

«الأيام الجنوبية» وقفة النثر على شعرية الناس والأمكنة، وقبلها «الذات».