Atwasat

محطة ليست الأخيرة

سالم الهنداوي الخميس 13 يوليو 2023, 04:57 مساء
سالم الهنداوي

.. عن النهايات يمكننا أن نتحدّث طويلاً ودون انقطاع، فهي متلازمة حياة بكل أبعادها في الدنيا وما فيها من تناقضات وأفعال صنعناها قصداً وبدون قصد.. إنها نهاية كُل شئ عشناه بإراداتنا أو كل شيء صادفنا في الحياة وكان خارج إراداتنا بدرجات فعل انتهت كما شاءت أن تنتهي في محيطنا المعرفي، ليكون نصيبنا منها هو ما تتركه لنا في النهاية، في ختامها النهائي، السئ والجيِّد، السلبي والإيجابي، الحزين والسعيد، الجميل والقبيح، المقبول والمُستهجَن، وطبعاً العجيب وغريب الأطوار، وبأشياء كثيرة أخرى غير قابلة للتصحيح والتغيير.. بعكس البدايات التي قد تكون لنا، لذاتنا ومن صُنعنا، وتعنينا كقيمة وجودية، فنخوض غمارها بدرجات فعل مختلفة مُفعمة بالحماس والرغبة والثورات، تصيبنا ونصيبها في المكمن والحواش حتى نبلغ منتهاها دون إدراك لمدى قيمها المعرفية لدى الآخر وتأثيراتها على بناء الذات، لنجد أنفسنا في النتيجة وقد قطعنا أشواطاً متباينة من درجات الفعل، في محصّلة حياة كاملة تنوّعت في مسيراتها الطويلة بين الآمال والخيبات حتى شارفت على النهايات.

.. حكاية «البداية والنهاية» في حياتنا حكاية طويلة، شائكة ومضنية وإن بدت طبيعية في الوهلة كنتاج فطري متعدِّد الوظائف والخِصال، لكنها الحياة ذاتها التي أدركناها لتنتهي بموت يدركنا.. لقد أدركنا الحياة بالفطرة لنعرفها وتعرفنا ولنصادقها وتصادقنا ونخاصمها وتخاصمنا، ولنعيش نواميسها في خلال رحلة عُمر غزيرة بالتحوّلات، شكّلت علامات الاختلاف في وجوهنا وأجسادنا وذاكرتنا، وبين أن يدركنا الموت فجأة فتنقطع كُل صلاتنا بالحياة، بالتجاعيد التي تركها الزمن على وجوهنا كأخاديد وخيوط سنين، وبأجسادنا التي تفكّكت وراء الآمال وأعطبت حيلها المشاوير، وبذاكرتنا التي ما عادت تُحسن حفظ الأسماء والوجوه، وأشدُّها بؤساً الخرف وفقدان الذاكرة «الزهايمر» لتبدو في نهاية حياة غير سعيدة، جسداً هزيلاً، تعيش بين أناس لا تعرفهم وكانوا الأقرب إليك في الدنيا، وتجوب شوارع لا تعرفها وكانت مهد طفولتك وصباك وألعابك ومدرستك وأقرانك.. تعيش جسداً مفقوداً بكتفيْن نحيلتيْن وبرأس ضامرة وعينيْن شاخصتيْن في الفراغ، بلا ذاكرة ولا حتى ملمس أطراف تقودك إلى الفراش.. إنه المرض الوحيد الذي تعيشه في الدنيا كأعمى بصر وبصيرة ويسلبك كُل إحساسٍ بالحياة، فلا تستطيع إدراك أنك أصبحت لا شيء، تائهاً معطوباً بلا روح، لا تعرف ولا تفهم ولا تستوعب، شخصاً بلا معنى ولا قيمة في حياة كنت شريكاً فيها وأصبحت عالة عليها بل ومجرد جثة كريهة تتحرك بلا إرادة.

.. بعضنا يكون ميتاً منذ زمن وهو لا يدري، يناقشنا في أمور الحياة بأسئلته الميتة، لكننا من فرط إيماننا بحقيقة وجود «الآخر» في حياتنا وأهميته في قيمة «المُشتَرَك» بيننا، لا ننفك نبحث له عن مُبرّرات الوجود وأسباب العيش والحياة بيننا، لنراه في النتيجة ماثلاً حقيقياً أمامنا في سؤال الوجود والعدم..

.. بمعنى ما من حركة التجريد الأخلاقي في مجتمع يجهل بدايته الحقيقية كذات فاعلة، نتعرف ببساطة على الإنسان «الهامشي» الذي يعيش نهايته بيننا بلا أدنى فعل ولا أثر جميل، يشاركنا الطريق والمقهى والجريدة وهو لا ينفع لشيء سوى أن يتبع ظِل الشيطان فيكون عائقاً في طريق اخترناه وبليداً في مقهى ارتدناها وغبياً مع جريدة قرأناها.. هذا الإنسان «المُجرّد» من حكمة الوجود جاء إلى الدنيا ليعيش بيننا بلا قيود، يأكل بلا حدود وينام بلا حدود ويثرثر بلا حدود، ويكذب بلا حدود، وأمكنه أن يقتل بلا حدود.. هذا «المخلوق» العجيب قد يكون خرج من صلب أبويْن صالحيْن، لكن تلقفته يد الشيطان في الدنيا، فبكى لحظة مولده لأنه في الحقيقة سقط من جهل ومن جوع ومن خوف، وما البكاء في لحظة مولده إلا تعبيراً عن حياة الشقاء المُقبلة، وأن قطع الحبل السرّي بينه وبين أمه لا يعني بالضرورة نهاية الحمل وبداية الأمومة، وإنما يعني أيضاً بداية أول عملية خلاص في الحياة من القيود، ومنها كانت «الفطرة» أولى مدارس الحياة التي بها أدرك الإنسان المخاطر والويلات بقدر ما أدرك الحيوان والطير، وهي القاسم المشترك الغريزي بين مخلوقات الله، ومنها تعلّم الحيوان وحافظ على حياته، بعكس الإنسان «العاقل» الذي تعلّم ولم يحافظ على حياته فكان أن استعجل موته في الدنيا كما استعجل حياته التي سلبته الطمأنينة من كُل شيء، ليموت فقيراً بلا معرفة بحقيقة الوجود.. الوجود الذي لم تصنعه إرادة الإنسان ولا مرة، بل كان فيه العابث اللعين بمقدّرات الطبيعة لينتهي خارجها غريباً منبوذاً وتبقى الحيوانات فيها وإن لم تكن ناطقة..
في أتون هذه العلاقات الشائكة في حياة الإنسان، ونجاة الحيوان، مات الناطق الرسمي، ومات الحاكم والمحكوم.