Atwasat

الموسيقار علي ماهر في ذكرى رحيله

إبراهيم حميدان الخميس 06 يوليو 2023, 08:05 مساء
إبراهيم حميدان

إبراهيم حميدان
صادفت يوم الجمعة الماضي الذكرى السنوية الأولى لرحيل الموسيقار الليبي علي ماهر الذي توفي في 30 يونيو من العام الماضي 2022، في إحدى المصحات التونسية على إثر مرض لم يمهله طويلاً.

تمتد تجربة هذا الفنان الكبير على مدى خمسة عقود من الزمن زاخرة بأعذب الألحان وأجمل الأغنيات التي لقيت استحساناً واسعاً من قبل الجمهور، وساهمت في صياغة الوجدان الليبي.

عُرِف الموسيقار علي ماهر بأنه أحد فرسان التجديد في الأغنية الليبية منذ السنوات الأولى لانطلاقته في النصف الثاني من الستينات، وهي المرحلة التي شهدت رياح التغيير التي عرفتها المنطقة العربية على أكثر من مستوى، فمن الانقلابات العسكرية في بعض البلدان العربية التي جاءت استجابة لمطالب شعبية ضاقت خلالها الشعوب ذرعاً بأنظمة فاشلة عجزت عن تحقيق التنمية والحرية لشعوبها ومواجهة الاستعمار وتحرير فلسطين، والتي قادتها بعد ذلك إلى أوضاع كارثية بدون أن تحقق التنمية أو الحرية أو تحرير فلسطين، إلى التيارات السياسية والأيديولجيات الفكرية التي راجت في تلك الآونة من ماركسية وتيارات قومية علاوة على المذاهب الفلسفية مثل الوجودية والاتجاهات الأدبية الجديدة التي طالت الشعر العربي والقصة القصيرة والرواية والمسرح. وخلال هذه المرحلة حفلت الصحافة الليبية بالمقالات التي كانت توجه سهام النقد إلى الأغنية الليبية من حيث ركونها إلى التقليد والتكرار والرتابة، والوقوع في المواضيع المستهلكة عن السهر والهجر والحرمان والفراق والبكائيات، وهذه الانتقادات الصحفية الموجهة لصناع الأغنية الليبيةلم تكن بمعزل عن رغبات الجمهور الليبي الذي كان يتجاوب مع الأغاني المشرقية الحديثة، المصرية تحديداً، وكذلك اللبنانية والسورية، التي كانت تبثها الإذاعة الليبية، وكذلك الإذاعات المصرية التي كان لها جمهور واسع في ليبيا.


أغنية (طوالي) أول لحن
على مستوى الأغنية الليبية، شهدت هذه المرحلة تنافساً بين الملحنين والمطربين، فبعد أن قدم الملحن وحيد خالد أغنية (ياقمر علالي) التي استوحاها شاعرها مسعود القبلاوي من التراث الشعبي، وغناها المطرب الصاعد آنذاك خالد سعيد، طلب الفنان علي ماهر من الشاعر مسعود القبلاوي أن يقدم له أغنية جديدة في موضوعها ليلحنها لخالد سعيد، فجاءت أغنية (طوالي) التي تناولت موضوع الغربة والحنين إلى الوطن، وقد كان هذا الموضوع جديداً بالفعل في ذلك الحين بالنسبة للأغنية الليبية، وأيضاً كان اللحن الذي صاغه لها علي ماهر جديداً، حيث اعتمد على تعدد النغمات أو الكوبليهات بعد أن كانت الأغنية الليبية آنذاك تعتمد نغماً واحداً يتكرر على مدى زمن الأغنية.

كان ذلك عام 1967، وهو أول لحن للشاب علي ماهر الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين عاماً من عمره، فهو من مواليد 1945 بالمدينة القديمة طرابلس، درس فيها المرحلتين الابتدائية والإعدادية، ثم درس الثانوية في مدرسة طرابلس، وانتقل إلى بنغازي ليدرس في جامعتها بكلية الاقتصاد والتجارة، وبعد التخرج عمل لمدة سنة في مصرف ليبيا المركزي عام 1966، ثم انتقل إلى قسم الموسيقا بالإذاعة الليبية.

كان اهتمامه بالموسيقا قد بدأ منذ الصغر، حين انضم في طفولته إلى الكشافة الليبية برعاية المرحوم علي خليفة الزائدي، هناك عرف الأهازيج والغناء الجماعي والفردي، وفي الجامعة درس الموسيقا خلال الفترة المسائية على يد الموسيقار السوري خليل البكري الذي كان مشرفاً على النشاط الموسيقي في جامعة بنغازي أوائل الستينات.
وفي عام 1971سافر إلى القاهرة ليدرس الموسيقا والمسرح، ونال بكالوريوس التخصص وكذلك دبلوم الدراسات العليا، وعاد عام 1977 إلى ليبيا، وخلال إقامته في مصر، لم تنقطع علاقته بالتلحين والغناء، حيث لحن وغنى بصوته مجموعة من الأغاني بعضها أغانٍ صباحية مثل (يا حلو صبح) و(نورعلى نور) وأيضاً (لما حبيتك) و (زي كل الناس) و(أحب الربيع) و(الحرمان) وغيرها من الألحان.


عندما مُنِعت (بلد الطيوب) وأغانٍ أخرى
ما عَزّز الانطباع بظهور مُلحّن مهم ومجدّد، العمل الغنائي الثاني الذي جاء بصوت محمود كريم هذه المرة، وبدلاً من الشعر العامي، ذهب الموسيقار علي ماهر إلى قصائد الفصحى، فكانت قصيدة (بلد الطيوب) للشاعر علي صدقي عبدالقادر، وكان يعتزم الاتصال بالفنان المغربي عبدالهادي بلخياط ليغنيها، لكن خليفة التليسي الذي كان وزيراً للإعلام حينئذ اقترح عليه أن يتغنى بها مطرب ليبي طالما أن القصيدة عن ليبيا، فكان الأمر كذلك، وغناها الفنان محمود كريم الذي عُرِف عبر برنامج (ركن الهواة) الذي كان يُعدّه ويُقدّمه الموسيقار كاظم نديم، وتدخل التليسي مرة ثانية حين اعترض الفنان حسن عريبي رئيس قسم الموسيقا بالإذاعة حينئذ على شطر (ياليل يالالالي) الذي ورد في اللحن باعتبار أن له علاقة بالموشحات والمالوف، تدخل التليسي لصالح لحن علي ماهر بعد أن استمع إلى بروفات الأغنية. (1)

واستقبلت الأغنية وقتها بحفاوة كبيرة وسط جمهور المستمعين، وحققت نجاحاً كبيراً، وغناها محمود كريم عديد المرات على المسرح وفي أكثر من مدينة ليبية. والآن وقد مرّ على هذه الأنشودة ما يقرب من الخمسين عاماً ندرك فعلا أننا أمام عمل غنائي بديع، فهي واحدة من أجمل الأغاني التي تغنت بحب ليبيا. استطاع الملحن أن يبث الحياة في كلمات هذه القصيدة التي كانت ترقد مهملة في إحدى الجرائد، ويحيلها إلى أغنية فائقة العذوبة والجمال، ترددها الجماهير عبر عشرات السنين دون أن تفقد بعد كل هذا الزمن نضارتها وبهاءها وأناقتها. ولا شك أن اختيار محمود كريم لأداء هذه القصيدة كان موفقاً للغاية، لما يتمتع به هذا الفنان من قدرة فائقة على نقل الأحاسيس والمشاعر، والقدرة على غناء القصائد، فاستطاع أن يضفي على هذا العمل الغنائي بإحساسه وجمال صوته سحراً وجمالاً جعلت الأغنية تسكن القلوب وتستوطن الذاكرة. ولعل النجاح الذي حققه الثنائي علي ماهر، محمود كريم، هو ما شجع ملحننا على أن يمنح هذا المطرب المزيد من الألحان، فجاءت بعد ذلك قصيدة (قناعك)، ثم قصيدة (كم أشتهي) ، و(رحال) و(تعيشي يابلدي)، و(قد نلتقي(.

المفارقة أن هذه الأغنية مُنِعت من البث خلال فترة حكم القذافي وهيمنة الخطاب العروبي على الإعلام الليبي خلال الثمانينات من القرن الماضي، حيث مُنِعت بحجة أنها تتضمن دعوة للإقليمية. وفي ذلك الحين مُنِعت، ولنفس السبب، جميع الأغاني التي تتغنى بليبيا، رغم أنها كانت قليلة العدد، كما مُنِع لحن آخر لعلي ماهر وهو (تعيشي يابلدي) بحجة إنها أغنية حزينة، ويبدو فيها المغني وكأنه يبكي على بلده، كما مُنِعت أغنية (كل شئ تغير يا حمام حتى ضحكة جارنا) (2) نتيجة التأويل السياسي، كذلك الأمر بالنسبة لأغنية (يا هوه وين العقل ودرتوه) لعزالدين محمد، وأغنية (شيالة هم) للسيليني. مع ملاحظة أن هذا النوع من التأويل السياسي السلبي للأغاني طال العديد من الأغاني العاطفية والوطنية في تلك المرحلة، أشهرها أغنية المطرب محمد السيليني (وين سايرة يامركبي قوليلي) التي مُنِعت كما هو معروف، و(عرفتك زين تلعب ع الحبلين) لعبدالله الأسود.

بعد 17 فبراير2011 أصبحت بعض الأغاني والأناشيد التي لحنها علي ماهر في قائمة الممنوعات من البث عبر الإذاعات، وهي تلك التي تمجد القذافي، أو خطابه السياسي، في مقدمتها نشيد (وطني الكبير) الذي كتبه القذافي بنفسه، وتغنى به مجموعة من المطربين، وأيضاً (عالي صوت الحق ينادي) لراسم فخري و(مداين وارياف وراية) للطفي العارف، و(شيالة هم) للسيليني و(الوطن يالصحاب) لوديع الصافي، و(المعتصم بالله) لسعاد محمد، ونجت (بلد الطيوب) هذه المرة، وكذلك (تعيشي يابلدي). مما يؤكد أن الغناء للوطن هو الباقي، أما التغني بالزعماء وشعاراتهم السياسية فمصيرها الزوال مع تغير الأحوال.

مسيرة حافلة
وإذا عدنا إلى أوائل السبعينات التي شهدت ظهور أعمال مهمة للموسيقار علي ماهر نجد لحناً مميزاً ولافتاً قدمه لنا الفنان محمد السيليني وهو (وين خليتوها أم الضفاير) وهي أغنية تستوحي حياة الريف، فنجد اللحن يترجم هذه الأجواء في نغمات تنساب ناعمة، وإيقاعات بطيئة، وقد أكّد هذا اللحن طموحات الموسيقار علي ماهر في البحث عن التنويع في الكلمات التي تتحدى موهبته، وتُلهِمه ألحاناً جديدة، وصياغات موسيقية جديدة، هذه الألحان سوف نجدها تتجسد في أعمال غنائية نجحت وحققت انتشاراً بين الناس، وأصبحت جزءاً من التراث الغنائي الليبي نذكر منها على سبيل المثال قصيدة (ارحميني) للشاعر نوري ضو، وقصيدة (غنِّ لي الليلة) للدكتور علي فهمي خشيم، وهما قصيدتان غناهما الفنان والمطرب المغربي عبدالهادي بالخياط، كما غنى له هذا الفنان أيضاً من كلمات الشاعر المصري حسين السيد (شارد في الليل) و(عيد التحرير)، وغنت له فائزة أحمد (ياللا معانا) ونازك (قد كفاني) وأصالة (شمعة وحيدة) و(شط الحنان)، وميادة (لمن أغني) و(أيش قيمتك يا حب). وعُليّة (لا القلب قلبي) كما لحن قصيدة (وقف عليها الحب) للدكتور خليفة التليسي وتغنى بها عدد من المطربين الليبيين.

بعض المطربين لم يتجاوز تعاونهم مع الموسيقار علي ماهر لحناً واحداً، ولكن ذلك اللحن الوحيد كان علامة مهمة في مسيرة كل واحد منهم، مثل (ياتيار) لمحمد رشيد، و(ننسى) لمصطفى طالب، و(ودي نقي) لمراد اسكندر. وقدم أكثر من لحن للطفي العارف أبرزها (حنّيت)، و(انتي قمر) و(مداين وارياف وراية) وقدم لمحمود كريم (بلد الطيوب) و(كم أشتهي)، و(صبار)، و(تعيشي يابلدي)، و(قناعك). أما محمد السيليني فهو صاحب النصيب الأكبر من ألحان علي ماهر إذ قدم له (لا تدبري)، و(ولوع)، و(عاشق أنا)، و(وين خليتوها)، و(نكرتي)، و(شيالة هم).
بالإضافة إلى هذا وضع الموسيقار علي ماهر ألحان الأوبريت الغنائي (هند ومنصور) للكاتب أحمد إبراهيم الفقيه عام،1971 وكانت تجربة رائدة وفريدة في المسرح الليبي، كما وضع ألحان وموسيقا المسرحيتين (باب الفتوح) و(السندباد) من إخراج فتحي كحلول، والموسيقا التصويرية لفيلم (تاقرفت)، وألحان أغاني مسلسل (حرب السنوات الأربع).

مسيرة الموسيقار علي ماهر زاخرة بالأعمال اللحنية والموسيقية الجميلة، التي وجدت طريقها إلى قلوب الناس، لأنه كان دائماً قادراً على ترجمة الأحاسيس وتجسيدها عبر الموسيقى، يتفاعل مع النصوص الشعرية التي يجيد اختيارها ليسردها علينا أنغاماً نابضة بالمشاعر الدافئة، كما يسجل للموسيقار علي ماهر محاولاته الدؤوبة في العبور بالأغنية الليبية من حدودها المحلية ليحلق بها عبر الآفاق العربية، لتصل إلى المستمع العربي أينما كان خاصة تلك الأغاني التي تغنى بها المطربون العرب، ولو تحقق لهذا الفنان ولغيره من الفنانين الليبيين ما يستحقونه من دعم من قبل الدولة الليبية، خلال العقود الماضية لكانت الأغنية الليبية أكثر انتشاراً وذيوعاً في العالم العربي.
----
1- حوار مع الفنان علي ماهر، إعداد رمضان سليم، نشر على موقع سينما طرابلس الإلكتروني.
2- نفس المصدر