Atwasat

خشيم والزواوي: صداقة نصف قرن

إبراهيم حميدان الأربعاء 14 يونيو 2023, 03:11 مساء
إبراهيم حميدان

محمد بن محمد الترهوني، هذا هو اسمه في بطاقته الشخصية وفي جواز سفره وبقية الوثائق الرسمية، لكن الاسم الذي عُرف به بين الناس، وخاصة بين الأدباء والكتَّاب والرسامين والإعلاميين وقراء الجرائد والمتابعين والمهتمين بالرسم والفن التشكيلي هو محمد الزواوي، رسام الكاريكاتير الليبي الأكثر شهرة في ليبيا، والمعروف كأحد أهم رسامي الكاريكاتير في العالم العربي.

أما سبب نسبته إلى «زواوة»، كما يقول الدكتور علي فهمي خشيم في سيرته الذاتية «هذا ماحدث»، فيكمن في أن أمه كانت تفقد أبناءها عقب ولادتهم، ما إن تنجب وليدها حتى يختطفه الموت، وروى الزواوي لخشيم نقلا عن والدته أنها كانت نائمة وهي حامل به، فجاءها في المنام طيف الشيخ الزواوي، الولي الصالح المدفون في منطقة الأبيار حيث يسكنون، وقال لها: ستلدين ذكراً وأريدك أن تُسميه باسمي. لكنّ خلافاً نشب بين الوالدين، الأم تريد أن تسمي وليدها باسم الولي، والأب يريد أن يسميه محمداً، وجرى حسم الخلاف بأن سُجِّل رسمياً باسم محمد، وصار في البيت يُدعى ازواوي، وعندما أصبح يرسم في الجرائد والمجلات اختار اسم ازواوي يُوقّع لوحاته به، وهو الاسم الذي اشتهر به في الأوساط الصحفية والثقافية وبين القراء والمتابعين للصحافة(1)

يروي علي خشيم في كتابه الذي أشرنا إليه قصة تعرفه على محمد الزواوي فيقول أنه كان ذات يوم في إحدى المكتبات بشارع عمر المختار ببنغازي يقلب صفحات مجلة «الإذاعة»، فإذا بمجموعة من رسومات الكاريكاتير تلفت انتباهه، لوحات مميزة لم ير مثلها من قبل، تصور الشخصيات الليبية بملامحها وملابسها بطريقة متقنة، تختلف عما سبق له أن شاهده في الجرائد والمجلات الليبية. انتابته الفرحة بهذا الاكتشاف وما إن وصل منزله حتى باشر بكتابة رسالة إلى الأخ (ازواوي) الذي لم يسبق له معرفته، يُحييه ويُطري رسومه، ويُبين سعادته به، وبعث له بتلك الرسالة. كان ذلك في العام 1964، وبعد مرور أربعين عاماً وبينما كان خشيم جالساً في منزل الزواوي بحي الأندلس بطرابلس، وإذا بالفنان الساخر يبرز له تلك الرسالة التي نسي أمرها، وقال له: هذه أول رسالة أتلقاها في حياتي من معجب. لقد احتفظت بها طيلة أربعة عقود(2)

الزواوي وخشيم صديقان ارتبطا معا بعلاقة إنسانية عميقة منذ النصف الأول من الستينيات، واستمرت صداقتهما حتى الأيام الأخيرة من حياتهما، وبالنسبة لي فقد تعرفت عليهما أواخر العام 1997 حين توطدت صلتي بعلي خشيم في رابطة الأدباء والكتاب الليبيين، عقب انتخابنا معاً، هو رئيس لرابطة الأدباء والكتاب الليبيين وأنا نائب له، ومن خلال العمل اليومي صرنا صديقين، وقادني خشيم لزيارة صديقه الأثير فنان الكاريكاتير الكبير محمد الزواوي، الذي كنت أعرفه لكنني لم أتشرف بزيارته في بيته.

كنا نزوره سوياً في مرسمه، وهو المكان الذي يؤثره خشيم على أي مكان آخر في ذلك البيت، فهو يرفض أن نجلس في حديقة البيت، أو الصالون، الذي يقترحه علينا الزواوي للجلوس، بذريعة أن المرسم في حالة من الفوضى، لكن خشيم لا يعترف بهذه الحجة، ويردد دائماً أنه يفضل أن تكون جلستنا في المرسم، حيث رائحة الألوان والحبر التي يحبها، وهي الحيلة التي يستخدمها ليخفي رغبته في إشباع فضوله في الاطلاع على اللوحات الجديدة للزواوي الموجودة في المرسم، فيضطر الرسام إلى أن يُطلعنا عليها، خاصة في المرحلة التي ارتبطنا فيها بالعمل معا، خشيم وأنا والزواوي في مجلة «لا» التي كانت تصدر شهرية عن رابطة الأدباء، خلال التسعينيات، وكان خشيم مشرفاً عاماً على المجلة، وكنت مديراً لتحريرها، وعبدالرحمن الشاطر رئيساً لتحريرها.

ومنذ أن صار مشرفا عليها (منتصف 1997) عقب توليه رئاسة الرابطة، طلب خشيم من الزواوي أن يرسم لوحة الغلاف لكل عدد من أعدادها، وكانت هذه بالنسبة لي فرصة إضافية لزيارة الزواوي في مرسمه، حيث أحظى بجلسة جميلة معهما، نتأمل لوحات الكاريكاتير التي رسمها الفنان الكبير لجرائد ومجلات كان يتعاون معها إضافة إلى مجلة «لا»، ونحتسي معا القهوة والشاي، ونتبادل الأحاديث الشيقة في قضايا الثقافة والفن والسياسة. في هذه المرحلة تعمقت صلتي بمحمد الزواوي الفنان والإنسان، الذي كان من الصعب علي تحقيق هذا الاقتراب منه لولا وجودي في رابطة الأدباء وصداقتي بالدكتور خشيم، لأن الزواوي كان يعيش في ما يشبه العزلة نتيجة ظروف شخصية مر بها سأعود إليها لاحقا.

ووجدت الفنان الكبير شخصية تقطر لطفاً ودماثة ومودة، قارئاً جاداً، ذكياً، ومثقفاً كبيراً، كان يقدم لنا لوحاته وهي ما زالت في بداياتها، مجرد تخطيطات أولية، وهو في العادة لا يحب أن يعرض لوحاته قبل اكتمالها كما يقول لنا، ولكن أمام إصرار خشيم وإلحاحه الذي يشبه إلحاح الأطفال حين يصرون على شيء ما حتى ينالوه، يضطرالرسام إلى سحب تلك التخطيطات وعرضها علينا على مضض، مردداً: ما زالت خربشات يا جماعة، ومرات ما يصيرش منها ونلغيها، لكن خشيم لا يلتفت إلى كلام صديقه، ويظل يتأمل تلك التخطيطات بفرح وبهجة، يثني على اللوحات، ويشيد بعبقرية الزواوي، ويذكرني بلوحات قديمة كان قد نشرها الزواوي: هل تذكر لوحة ذلك الرجل الذي يرتدي بدلة وربطة عنق ويضع قدمه على دلاعة أمام كشك يحيط به جبل من الدلاع، ويصيح في البائع الذي لا يبدو لنا سوى رأسه وسط الدلاع قائلا: عندك دلاع؟ هههههههههه ويضحك، ونضحك أنا والزواوي على اللقطة، وكأننا نكتشفها لأول مرة.

وأتذكر أنا لوحة أخرى من لوحات الزواوي التي يرصد فيها أحوال الليبيين في شهر رمضان أو خلال النزهات العائلية في الغابات أوعلى شواطئ البحر، وتنثال الذكريات وتتداعى الحكايات، ونجد أنفسنا نخوض في قضايا اجتماعية وسياسية وثقافية وبين الحين والآخر تنطلق القهقهات والضحكات، والزواوي يخاطب علي خشيم بذلك الاسم الأثير لديه: ياعليوة

وأكتشف مجدداً أن الفنان الزواوي هو الوحيد الذي يخاطب خشيم باسم عليوة!!!
ولعل خشيم هو الوحيد أيضا الذي ينادي الزواوي: ياحميدة.

ورغم اختلاف شخصية كل منهما عن الآخر، فالزواوي يميل إلى الهدوء والصمت والاكتفاء عادة بالاستماع، والاحتفاظ برأيه، بينما يميل خشيم إلى الجدال والنقاش وإبداء الرأي الذي لا يخلو من شطط أحياناً، إلا أنني لاحظت بعض الصفات التي تجمع بينهما مثل التفكير النقدي، والطابع المرح، علاوة على التسامح والتواضع، والمثابرة والجدية في العمل، ولعل هذا من ضمن ما أسهم في توطيد صداقتهما، التي أعتبرها، وقد كنت شاهداً عليهاً، من أجمل علاقات الصداقة التي شهدها الوسط الثقافي الليبي خلال تلك المرحلة، فقد ارتبطا معا بعلاقة ود ومحبة دامت ما يقرب من نصف قرن، وقد وثق خشيم جوانب منها في سيرته الذاتية «هذا ماحدث» حيث خصص عدة صفحات لعلاقته مع الزواوي.

وذكر أنه كتب مقدمات كتبه الثلاثة التي تضمنت لوحاته الساخرة: «الوجه الآخر»، «أنتم»، «لعلكم»، ورسم الزواوي لوحة الغلاف والرسوم الداخلية لرواية «إينارو»، لعلي خشيم، وسافرا معا إلى خارج البلاد مرات عديدة في مهام ثقافية، وما لم يذكره خشيم في سيرته الذاتية أنه كان عونا لصديقه بما كان له من علاقات بالمسؤولين في الدولة الليبية، فقد كان يسارع إليهم كلما احتاج الزواوي أمرا ما من الدولة، رغم أن بعض ما مر به الزواوي كان أكبر من قدرات خشيم وعلاقاته، وأعني هنا اعتقال الفنان الزواوي وسجنه في تونس العام 1982، واعتقال ابنه عوض الزواوي وسجنه العام 1989، وأذكر أن خشيم أخبرني أنه لجأ إلى الرائد عبدالسلام جلود الرجل الثاني في القيادة الليبية طالبا منه إطلاق ابن الزواوي من السجن، تقديراً للفنان الكبير، لكن جلود رفض الاستجابة لطلبه بحجة أن عوض الزواوي متهم بتأسيسه وقيادته لإحدى الجماعات الجهادية. ثم قتل ابن الزواوي كما هو معروف في سجن أبي سليم العام 1997، في تلك المجزرة الرهيبة، وهو ما أثقل قلب الزواوي بالأوجاع والآلام.

ومن غرائب الأمور أنه حين أنشب المرض اللعين مخالبه في جسد علي خشيم في منتصف العشرية الأولى من الألفية الجديدة، اعتل قلب الزواوي مباشرة، واضطرب، ودخل موضوع جديد إلى لقاءاتنا نحن الثلاثة في مرسم الزواوي، وهو الحديث عن المرض وتطوراته، كلاهما يسأل الآخر عن حالته الصحية والأدوية والأطباء والمستشفيات ونوعية الأكل التي تغيرت وصارت محدودة.

وعلى الرغم من المرض وإحساس كل منهما بشبح الموت الذي بات يحوم حولهما، ظل هذان الرجلان يعملان بذات المثابرة وبذات الإصرار، كل منهما في مجاله، يقول الزواوي عن نفسه: أنا أرسم كل يوم، أنهض مبكراً أصلي الفجر ثم أضع فنجان قهوة أمامي وأنهمك في الرسم حتى العاشرة صباحاً، أشعر أنني إذا توقفت عن الرسم فسوف أموت.

ويقول خشيم كلاماً مشابهاً، فهو ينهض كل صباح ليكتب لمدة ساعات. لا شيء يثنيه عن الكتابة، فهي عنده كد يومي، لا تهاون ولا تكاسل فيه، وإن شغله أمر ما عن الجلوس للكتابة صباحاً، فإنه لا بد أن يجلس بضع ساعات في المساء أو في الليل ليكتب، كي لا يحسب عليه الزمان أنه تلكأ يوما وترك 24 ساعة تمر دون أن يقتطع منها بضعة ساعات للكتابة.

ولقد ظل علي خشيم حتى الأيام الأخيرة من مرضه يتابع طباعة كتبه مع إدارة مجمع اللغة العربية الذي كان يترأسه، وكانت حينها لا تزال في المطبعة، وظل الزواوي يرسم حتى بعد انفجار الأوضاع في 2011 حيث عملت السلطة على توظيف رسوماته التي يحبها الناس لصالحها، واستجاب لها الفنان فلم يكن بوسعه أن يرفض أمر سلطة ديكتاتورية، وهو في ذلك العمر المتقدم مثقل بالمرض، ولقد بلغ من دناءة تلك السلطة أن أنصارها حملوا لوحات الزواوي المؤيدة لموقف السلطة في الحرب خلال الجنازة وفي المقبرة وأبرزوها أمام كاميرات أجهزة الإعلام التي كانت موجودة هناك. كانت السلطة تريد أن توظف شعبية الفنان لصالحها حتى وهو يرقد في تابوت محمولا على الأكتاف في طريقه إلى مثواه الأخير.

ومن غرائب الأمورأن يرحل الزواوي في 5 يونيو 2011 فلا يلبث أن يلحق به صديقه الحميم علي خشيم في 9 يونيو 2011، وكأن الثاني يقول للأول: لن ترحل وحدك ياصديقي، لقد ترافقنا معاً ونرحل معاً، ولقد مرت ذكرى رحيلهما الأيام القليلة الماضية، فتذكرهما بعض الأصدقاء والصحفيين والمحبين وبعض الصفحات الثقافية على وسائل التواصل الاجتماعي وتجاهلت ذكراهما القنوات التلفزية الليبية التي لا تهتم بالثقافة كعادتها.
----
1-علي فهمي خشيم، هذا ما حدث، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس، ص218
2-المصدر نفسه، نفس الصفحة